على الساحة الآن ثقافة زائفة ومثقفون زائفون

محمد الشحات يمتلك تجربة شعرية ثرية تمتد من السبعينيات حتى الآن.
امتلاك تجربة شعرية ثرية لا يتأتى بعدد الدواوين ولكن بما تحتويه هذه الدواوين من قصائد
الشحات لم ينتم لأي من الجماعات التي ظهرت في هذه الفترة أوائل السبعينيات

يمتلك الشاعر محمد الشحات تجربة شعرية ثرية تمتد من السبعينيات حتى الآن، أنتجت 17 ديوانا، تخللتها نقلات مهمة تمكن خلالها من تطوير أفكاره ورؤاه الفنية والجمالية مستهدفا خصوصية وفرادة قصيدته واختلافها عن القصيدة السبعينية تحديدا التي أحاطت ببداياته الأولى حيث أصدر ديوانه الأول "الدوران نحو الرأس الفارغ" عام 1974، لينفتح على تجليات اللغة في بساطتها لتشكل جملة شعرية مفعمة بالرؤى الدلالية ومشتبكة مع قضايا الذات والعالم، حيث تحفل دواوينه بالإنساني العام في تناقضاته وتقلباته وما أصابه من تغيرات فيما تتوارى الذات كثيرا.
من إصداراته الشعريّة: آخر ما تحويه الذاكرة، كثيرةٌ هزائمي، المترو لا يقف في ميدان التحرير، الأعمال الكاملة (2015)، و"ترنيمات شاعر قبل الرحيل" وأخيرا ديوانه "سيعود من بلد بعيد" الذي تكتب نصوصه أوجاع الغربة والاغتراب برؤى متفردة. 
في هذا الحوار مع الشاعر محمد الشحات نتعرف على رؤاه وأفكاره سواء منها ما تعلق بالجانب الإبداعي أو المناخ الثقافي العام في مصر.
يقول الشحات إن امتلاك تجربة شعرية ثرية لا يتأتى بعدد الدواوين ولكن بما تحتويه هذه الدواوين من قصائد، ويتساءل: هل الشاعر الذي كتب هذا الكم الكبير نسبيا من الدواوين والقصائد يمتلك شيئا يقوله، هل لديه مشروع فكري، قضايا وأفكار تشغله فتخرج عبر قصائده، ذلك ما يهمني أمام أي شاعر أصدر ديوان أو أكثر، فلربما شاعر يصدر ديوانا واحدة أو يكتب قصيدة واحدة تكون قيمتها أفضل من مئات الدواوين، ومن هنا هل دواويني الـ 17 التي صدرت منذ عام 1974 انطلاقا من "الدوران حول الرأس الفارغ" حتى "سيعود من بلد بعيد" الصادر أخيرا. هل كانت هناك قضايا تشغلني ومهموم بها؟ وأجيب بأنه منذ أول دواوينى والتى صدرت لي وكنت أبلغ من العمر عشرين عاما كنت ملتحما مع الإنسان بكل همومه، أفراحه وانكسارته وأحزانه واغترابه، ومحاولته الدائمة البحث عن ذاته وسط جبال المخاوف وعيون الرصد والتربص التي تطارده، كان هذا الإنسان شغلي الشاغل. لقد كنت هذا الشاعر الرافض والمتمرد على كل القيود وكل أشكال الخوف التي تحيط بنا، وربما تكون تلك القصيدة هي المفتاح السحري لعالمي الشعري.
وحول إصداره ديوان "الدوران حول الرأس الفارغ" 1974 وأنه لم ينتم لأي من الجماعات التي ظهرت في هذه الفترة أوائل السبعينيات، أوضح الشحات "أولا منذ بداية تجربتي وأنا أؤمن بأن الشاعر لا بد وأن يكون حرا طليقا مغردا في الفضاء، ولا يتقيد بالانتماء إلى أي من الجماعات الشعرية، التي تفرض قيودا معينة على رؤى وأفكار شعرائها، فالفرد من أجل الجماعة كما تقول المصطلحات السياسية، إلا أنني كنت رافضا الانتماء إلى تلك الجماعات وهو رفض متبادل من الطرفين، هم وجدوا في أنفسهم متفقين على رؤى معينة بالنسبة للقصيدة، يساعدهم في ذلك بعض النقاد الذين عملوا على دعمهم، وأيضا وسائل النشر التي كانت متاحة لهم، سواء الخاصة من خلال مجلاتهم، أو العامة من خلال المجلات الخارجية.  

الشعر المصري
ينفتح على تجليات اللغة 

ويضيف "تلك أمور مقبولة في جميع الثقافات، ولكن غير المقبول هو نفي الآخر، فللأسف الشديد تعمّد وحرص شعراء جماعتين سبعينيتين على نفي كل الشعراء الآخرين، بل محاولة قتلهم وإعدامهم إبداعيا، بدليل أن كل الملفات التي كتبت عن تجربة شعراء السبعينات في مصر لم تخرج عن شعرائهما، وهذا ظلم كبير حتى للجماعتين، لأنك هنا ترى نصف كوب الإبداع المصري ولا ترى نصف كوب الإبداع الآخر، ومن الظلم حصر تجربة شعراء السبعينيات في هاتين الجماعتين أو غيرهما، بل أن هناك شعراء وشعراء حقيقيين قد يتفوقون بمراحل كبيرة عن شعراء الجماعتين، ولكن للأسف الشديد تعرضوا للنفي الجبري، ساعد الجماعتين وجود من يمهد لهم الساحة نقديا، ومن ينشر أعمال شعرائهما، وكأن مصر قد أغلقت شعريا على شعراء الجماعتين. ولو كان هناك نقد منصف للتجربة الشعرية في تلك الفترة وقام بتقييمها بأمانة لاستطاع أن يضع الحركة الشعرية المصرية الموجودة وقتئذ في مكانة مغايرة للمكانة التي احتلتها من خلال الاقتصار على شعراء الجماعتين، حتى من تصدى لشعراء السبعينيات من الأكاديميين لم ينجوا بل ساهموا بشكل أكبر في ظلم الحركة الشعرية المصرية في تلك الفترة، لأنهم أيضا صاروا على نفس الدرب.  
ويشير الشحات إلى أن مفهوم اللغة الشعرية وعلاقتها بتشكيلات القصيدة انطلق أثناء دراسته "كنا في دروس اللغة في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية قد سعدنا بأن القائم على تدريس فقه اللغة هو العالم اللغوي د. محمود فهمي حجازي، فقبل دراستي لهذه المادة على يد هذا العالم الجليل كنت أفهم اللغة فهما مغايرا لما فهمته بعد أن درست فقة اللغة وانعكست بعد ذلك على كتابتها، باعتبار أن اللغة أواني من أجل تواصل الأفكار، فكلما تعمقت لغتك واتسعت عوالم علاقتك بها يصبح من السهل أن توصل فكرتك إلى القارىء، ولكن الميل إلى اللغة المقعرة واللغة المغلقة، والكلمات المهجورة، يحدث حالة من التغريب والإبهام والإغلاق في النص الأدبى، وقد يكون ذلك جزء من الاختلاف المنهجي بيني وبين كثير من شعراء جيلي، لأنني في ديواني الأول كنت أميل إلى اللغة المغلقة التي تصل في أحيانا إلى حد الالغاز والغموض، ولكني علمت بعد ذلك أن تغريب اللغة قد يكون سببا مباشرا لاغتيال النص، ووئد الأفكار، فتخلصت كثيرا من تلك المفردات الغريبة والمغلقة.

المثقف تنازله عن دوره، فلم يعد مقاتلا أو مناضلا، باع كل شيء وخلع عقله، فأصبحت الثقافة بلا هوية وبلا تأثير، ولم يعد ولي الأمر يعطيها أي اهتمام بعد أن خاف المثقف من العصى وارتضى بأكل الجزرة

ويلفت إلى أن التراث الإبداعى حلقات متصلة ومتواصلة، وأن الأجيال الإبداعية تسلم بعضها البعض، والكارثة التي يمكنها أن تهدم جوهر الإبداع تتمثل في ظن البعض بأنهم إذا ما كسروا التراث وحاكموه وتخطوه فإنهم سيبرعون وتتفوق نصوصهم، وينطلقون إلى آفاق أرحب وأوسع، يا سيدى هناك علاقة جديلة بين أى مبدع في أي زمان ومكان وبين التراث، بينه وبين من سبقوه من مبدعين في مختلف الفنون، هل دارس الفلسفة يمكنه أن يصل إلى نتيجة لو أهمل وتجاهل إنتاج الفلاسفة العظام والتراث الفلسفي؟ هل المثّال والنّحات يستطيع أن يتجاهل ما خلفته عبقرية النحات في مختلف المراحل الانسانية؟ 
توارث الثقافات والإبداعات أمر ضرورى، ولكن السؤال ما الذى يمكنك أن تسفيد من هذا التراث، هذا هو المهم، إن الكثيرين يرددون حتى اليوم قصائد قيس بن الملوح، وعنترة بن شداد وقيس لبنى في الحب، وفي الحكمة يرددون قصائد المعرى والمتنبي وأبوتمام والفرزدق وغيرهم، ومن هنا لا بد للشاعر من علاقة جدلية بينه وبين التراث، أن يدخل إليه ويتزود منه ما يحتاج، دون أن يتلبسه، أو ينفر منه أو يحاكيه أو يقلده.
ويؤكد الشحات أنه منذ بداياته وهو مهموم بالإنسان بوجه عام، مهموم برغبته الصادقة في أن يتحرر من أي قيد، ويقول "للأسف الشديد الإنسان في عالمنا الثالث وفي المنطقة التي نعيش فيها قد تعرض لكثير من أشكال الظلم، والصلف، والسيطرة الشديدة من أجهزة قيدت حركته، نحن نعيش في منطقة تهاجم الأفكار قبل أن تولد، تهاجمها داخل الروؤس، فغير مسموح أن تفكر بعيدا عن القطيع، لكني تجاوزت ذلك واخترت أن أتلاحم مع كل ما هو إنساني، من أجل وطن نعيش فيه ويعيش فينا، فللأسف الوطن كان هو أول من سعى لاغترابنا وسعى لنفينا وتشريدينا.
ويرى الشحات أن الصحافة مقبرة أي مبدع، فالإبداع والصحافة عالمان متضادان ولا يمكن لهما أن يتلاقيا، خاصة مع الشاعر، فقد ينجح القاص أو الروائي أو المسرحي، إلا أن الشاعر لا يستطيع، الصحافة تأخذ بالصحفي إلى الواقع، وتجعله أحيانا مساعدا على التزيف وعلى التجميل وعلى التزين، وهي أمور معاكسة تماما للتركيبة النفسية للشاعر، فالصحفي، وقد حدث معي أن توقفت تماما عن الكتابة منذ الديوان السادس "كثيرة هزائمي" الصادر عام 1990 واستمر هذا التوقف إلى ان كتبت قصيدة "المترو لا يقف في ميدان التحرير" التي نشرتها يوم 2 فبراير/شباط 2011 وصدرت بعدها في ديوان يحمل نفس الاسم ولم أتوقف عن الكتابة حتى الآن، حيث أصدرت من عام 1974 حتى 1990 ست دواوين، وأصدرت من عام 2011 حتى اليوم احدى عشر ديوانا بالاضافة إلى مجلدين يضمان الأعمال الكاملة، وهناك مختارات من شعري بصدد الصدور، ولكن في مجمل الأمر الصحافة مقبرة للمبدع خاصة الشاعر.  

الشعر المصري
توارث الثقافات والإبداعات أمر ضرورى

ويشدد الشحات على أنه ضد عملية التقسيمات والمسميات الخاصة بالقصيدة، وكذا الدخول في معارك من أجل تغليب شكل على شكل آخر، ويضيف "هل استطاعت قصيدة التفعيلة القضاء مثلا على القصيدة العمودية، لا أظن ذلك، لأن من الإيمان أن الساحة الابداعية لا بد وأن يكون بها متسع لكل أشكال التعبير، أولا لا بد من تعريف ما هو الشعر حتى يمكن وصف القصيدة العمودية أو قصيدة التفعلية أو قصيدة النثر بشعر، إنه أمر يحتاج إلى مجهود كبير، وبعد أن نحدد التعريفات نتعامل مع المنتج وتأثير هذا المنتج على الملتقي، ونترك للمتلقي أن يتخير وجهتك وإلى أين يريد الذهاب، ولكن محاولات الشعراء أنفسهم تقسيم الإبداع الشعرى هو تدمير للعملية الابداعية، وبرأيي من يركز أكثر في محاولة تغليب شكل على شكل آخر يحمل في طيه عوامل دماره، دعوا كل أشكال الإبداع تنطلق على الساحة واتركوا للملتقي يحدد ما الذي يميل إليه. إن المعركة القائمة بين الأشكال الشعرية معركة وهمية، ولا يمكن أن يكتب لشكل من الأشكال بالسيادة بل يمكن أن تفضي المعارك إلى تدمير هذا الشكل. إنني أعتقد أن على الشعراء التركيز على نصوصهم ومحاولة التجديد والابتكار والتفنن فيما يبدعون ولا يشغلون بالهم بالشكل، لأنه في النهاية لن يبقى إلا الشعر الحقيقي أيا كان شكله. 
ويشير الشحات إلى أن بعض ما تم إنجازه في قصيدة النثر نتاجات رائعة وشعر حقيقي، ولكن أيضا هناك الكثير من الإنتاج السيء والذي لا يرقى إلى أي شكل من أشكال الفن، لذا أؤكد أن هناك إبداعات رائعة لشعراء قصيدة النثر، ثم إنهم في المقام الأول كانوا شعراء تفعيلة وشعروا أن القصيدة التفعلية قد ضاقت عليهم فحاولوا الخروج إلى أفق أوسع هذا في رأيهم، ومن رأيي أن من سوف يقوم بعملية التقييم هو وجود حركة نقدية مستنيرة تتناول كل الإنتاج الشعري من كافة جوانبه وتضعه من ميزان النقد حتى تخرج علينا وتقول كلمتها الفاصله فيما هو شعر ولا شعر. 
ويأسف الشحات لتراجع دور الثقافة بشكل محزن في مصر ويقول "أصبحت على هامش الهامش وليس لها أي تواجد، فقد تعرضت للنفي الجبري وأصبح من الخوف أن تظهر حتى في المشهد، اختفت الثقافة الحقيقية وما يظهر على الساحة الآن ثقافة زائفة ومثقفون زائفون وصلوا إلى أن تحولوا إلى تجّار ثقافة، تستخدمهم الدولة حتى يكونوا الوردة التي توضع في عروة الجاكت، لم يعد للثقافة أي دور، ساهم في ذلك سلبية ولامبالاة المثقف وتنازله عن دوره، فلم يعد مقاتلا أو مناضلا، باع كل شيء وخلع عقله، فأصبحت الثقافة بلا هوية وبلا تأثير، ولم يعد ولي الأمر يعطيها أي اهتمام بعد أن خاف المثقف من العصى وارتضى بأكل الجزرة.