على الفلسطينيين أيضاً مراجعة مواقفهم وسياساتهم

الحديث عن التطبيع وكأنه أساس المشاكل الفلسطينية يقصد التهرب من حقائق الانقسام واللامسؤولية.
حالة الاستعصاء التي تمر بها القضية الفلسطينية لا تعني النهاية لأن الخلل في الأدوات
لم نقطع الأمل بأن ينصت المخلصون في طرفي المعادلة الفلسطينية لصوت العقل
المراجعة المطلوبة يجب أن تكون عبر التفكير خارج الصندوق وبمشاركة مجتمعية وضغط شعبي

من حق الفلسطينيين أن يطلبوا من الدول العربية المُطَبِعة أن تتراجع عن التطبيع وأن تلتزم بما يمليه الواجب القومي وقرارات الإجماع العربي بما فيها المبادرة العربية للسلام، ولكن وفي المقابل عليهم بدورهم أن يعيدوا النظر بسياساتهم وأوضاعهم ومراهناتهم التي وصلت لطريق مسدود، لأن الدول المُطبِعة تتذرع بالانقسام وانهيار النظام السياسي الفلسطيني وعجزه لتبرير التطبيع والتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية، حتى وإن كان لهذه الدول دور فيما آل إليه الحال الفلسطيني.

الشأن السياسي ليس صراطاً مستقيماً بل تواكبه أخطاء ونكسات، إما بسبب تحولات وتحديات خارجية قاهرة أو لسوء أداء السياسيين وفشل مراهناتهم، إلا أن صيرورة الوضع السياسي إلى طريق مسدود لا يعني نهاية الحياة السياسية لأن السياسة لا تعرف الفراغ. إن لم يبادر أولي الأمر لتصويب المسار فسيأتي غيرهم ليملئوا الفراغ وقد تكون أخطاء الأخيرين أكثر وأكبر وتؤول الأمور إلى ما هو أسوأ، كما ستستغل القوى المعادية وخصوصاً دول الجوار الوضع للتدخل لخدمة مصالحها، وهذا ما لاحظناه في أحداث ما يسمى الربيع العربي وفي الحالة الفلسطينية.

حالة الاستعصاء التي تمر بها القضية الفلسطينية، سواء بسبب إسرائيل وسياستها العدوانية المدعومة أميركياً، أو بسبب الانقسام والحصار وأزمة النظام السياسي، أو بسبب ما تتعرض له من خذلان من طرف دول عربية تُطبع علاقاتها مع إسرائيل رسمياً وبالخفاء بتنسيق أميركي مع تجاهل الشعب الفلسطيني وقيادته، لا يعني نهاية القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني لأن الخلل في الأدوات والوسائل والتحالفات وموازين القوى وليس في مبدأ عدالة القضية الوطنية التي تعترف بها غالبية دول العالم وخصوصاً أن الشعب والقيادة لم يتنازلوا عن الحقوق والثوابت الوطنية.

ولأن الخلل ليس في المبدأ والحق بل في الأدوات والسياسات فهناك وسائل متعددة لتصويب المسار إن لم يكن كلياً فجزئياً، وذلك من خلال مراجعة المواقف والسياسات وإصلاح ما يمكن إصلاحه للحفاظ على الذات الوطنية وحيوية القضية إلى حين تغيير مجرى رياح الأحداث الدولية والإقليمية وإعادة بناء الحركة الوطنية جذرياً، وخصوصاً أن دولة الكيان الصهيوني ليست بالقوة التي يتصورها البعض أو التي تروجها عن نفسها.

ما نطرحه في هذا المقام ليس تبريراً أو دفاعاً عن نهج أو جماعة سياسية معينة ولكنه محاولة للخروج من العدمية السياسية وقطع الطريق على من يريد استغلال سوء الوضع الفلسطيني الداخلي لتصفية القضية برمتها، وحتى لا يستمر الحال على ما هو عليه وتستمر الطبقة السياسية في الدوران في حلقة مفرغة وانتظار آت لا يبشر بخير إن استمرت الأمور على حالها.

لقد بات واضحاً أن الاستقلال الفلسطيني التام ليس قريب المنال حتى في حدود دولة في الضفة وغزة، وأن مراهنات طرفي المعادلة الفلسطينية، منظمة التحرير وحركة حماس، وصلت لطريق مسدود أو فشلت، كما أن المراهنة على أنظمة العالمين العربي والإسلامي لا جدوى منها وخصوصا بعد تطبيع الإمارات مع إسرائيل ومؤشرات على سير دول أخرى في نفس الطريق، لذا يجب التفكير بمعالجات إصلاحية بما هو ممكن ومتاح لوضعنا الفلسطيني الداخلي لسحب البساط من تحت أقدام من يتذرعون بالانقسام الفلسطيني لتبرير تدخلهم في شؤوننا الداخلية. وفي هذا السياق يمكن التوصل لتفاهمات جزئية تبدأ بمراجعة كل طرف لنهجه مما يؤدي للالتقاء وسط الطريق في نقطة يمكن منها الانطلاق نحو مراجعة شاملة وإعادة بناء البيت الفلسطيني.

نعلم أن ما نطرحه يتعارض مع أفكار سبق وأن طرحناها أو دافعنا عنها كما أنه يتعارض مع قناعات عند غالبية الشعب بأن الطبقة السياسية الراهنة لا يمكن المراهنة عليها لتثوير أو حتى لإصلاح النظام السياسي وأن أقصى ما يمكنها فعله هو إدارة الانقسام وتقاسم مغانم السلطة، ولكن، وحتى لا يتم تكريس العدمية السياسية وتتحول مخرجات فشل الطبقة السياسية وخصوصاً الانقسام إلى واقع يتمترس من خلفه طرفا المعادلة ومعه يستمر الاستبداد السياسي وشبهات الفساد مما يفتح الباب لعودة الوصاية العربية مجدداً، فإننا لم نقطع الأمل بأن ينصاع العاقلون والمخلصون في طرفي المعادلة لصوت العقل ويقوموا بمراجعة استراتيجية قبل فوات الأوان وقبل أن يستكمل مخطط التآمر حلقاته ويأتي بقيادة جديدة تُزيح السلطتين القائمتين في غزة والضفة.

ما نقصده بالمراجعة ليس اللقاءات التلفزيونية أو المسيرات واللقاءات المشتركة لإيهام الشعب بوحدة الموقف في مواجهة سياسة الضم والتطبيع وأن شعرة معاوية لم تنقطع، ولا العودة لحوارات المصالحة العبثية والاتفاقات الموقعة بشأنها لأن في ذلك عودة للتفكير من داخل الصندوق ولن تؤدي إلا لتأبيد الانقسام وإدارته وتقاسم مغانم السلطة.

وهنا نحذر من أن ما يجرى من تقارب ظاهري بين حركتي فتح وحماس سينهار قريباً لأنه غير مبني على مراجعة جادة للمواقف، بل يرجع لأن شبح محمد دحلان يحوم فوق رأس الطبقة السياسية في غزة والضفة ولأن تجاوب حماس مع دعوات حركة فتح سببه مناكفة الإمارات العربية ورد الصاع لها بسبب موقفها المعادي للإخوان ولقطر ولتركيا وليس لأنها تُطَبع مع إسرائيل.

المراجعة المطلوبة يجب أن تكون من خلال التفكير خارج الصندوق وبمشاركة مجتمعية وضغط شعبي بهدف وضع استراتيجية وطنية متعددة المسارات كما سبق أن كتبنا وطالبنا منذ سنوات، وأن يكون على رأس أولويات هذه الاستراتيجية أو ممهداتها:

استعداد منظمة التحرير لإعادة النظر في رهانها على تحقيق هدف الدولة كاملة السيادة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية من خلال المفاوضات والالتزام باتفاقية أوسلو فقط، وأن تكون مستعدة لمراجعة آلية المفاوضات وفريقها.

استعداد حركة حماس لإعادة النظر في مراهنتها على الحلول محل منظمة التحرير ومراهنتها على الإسلام السياسي، وأن تُعيد النظر في سيطرتها على قطاع غزة وفي توقيعها اتفاق هدنة مع إسرائيل.

إجراء انتخابات عامة على كافة المستويات، لأن هناك لُبس وطعن في شرعية كل المؤسسات السياسية القائمة.

إعادة تنشيط الدبلوماسية الشعبية والتواصل مع الجماهير العربية بعد سنوات من تجاهلها والتركيز على العالم الخارجي وخصوصا الأميركتين وأوروبا.

 نعلم أن حدوث هذه المراجعة لا يعني تلقائياً وقف التطبيع وتراجع إسرائيل عن مخططاتها ونهاية الانقسام وإعادة توحيد غزة والضفة في سلطة وحكومة واحدة، ولكن المراجعة الجادة والفعلية ستقرب المواقف وستعمل على الخروج من عنق الزجاجة ومنع الانهيار التام كما سيؤدي لمواجهة مخطط الانقسام والمشروع الصهيوني برمته.