علي عطا: الشعر له أفق يختلف عن أفق الرواية

تجربة الكاتب المصري الشعرية والروائية تحتفي بالأبعاد الإنسانية الأكثر عمقا في علاقتها مع العالم.
الزخم الذي تشكله الرواية في المشهد الإبداعي زخم جميل في مجمله
النقد يمر بأزمة لا يعلم سوى الله متى تنتهي      

تحتفي تجربة علي عطا الشعرية والروائية بالأبعاد الإنسانية الأكثر عمقا في علاقتها مع العالم وصراعاته سواء كانت هذه الصراعات محتدمة داخل الذات أو مصطدمة مع الخارج المحيط، وقد قدم في الشعر كما في الرواية خصوصية في الرؤية والنسيج نابعة من تجارب حياتية قلقة في مواجهة تناقضاتها، وقد قدم 2017 عمله الروائي الأول "حافة الكوثر" الذي حمل صراع الذات الداخلي في احتدامها مع توترات الواقع، وواصل في روايته الأخيرة "زيارة أخيرة لأم كلثوم" الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية الكشف عن أعماق هذا الصراع في اشتباكه مع المحيط الخارجي لنرى عودة لمسقط رأس بطله وطفولته وعلاقاته الأسرية وأيضا أحداث تاريخية مهمة كان لها أثرها على المجتمع المصري.
 يسرد علي عطا أحداث روايته الجديد والسابقة أيضا بأسلوب شفاف تتجلى فيه روح الشاعر ورؤيته للعالم، هذه الرؤية الطامحة للكشف عن جوهر الأشياء والتفاصيل والأحداث التي يشكلها الإنسان أو تؤثر في تشكيله.
في بداية الحوار مع على عطا سألناه إن كان الانتقال من الشعر إلى الرواية جاء نتيجة لتقصير الشعر عن استيعاب تجربته الحياتية بكل ما يحيط بها من أحداث ترتبط بالذات أو المحيط العام. ونفى ذلك مؤكدا أن "الشعر له أفق وللرواية أفق مختلف"، وقال "كلاهما قادر على استيعاب التجربة الحياتية، بطريقتين مختلفتين. وسيجد القارئ في الروايتين اللتين أصدرتهما "حافة الكوثر" التي صدرت في بداية 2017، و"زيارة أخيرة لأم كلثوم" الصادرة في يناير/كانون الثاني 2020، بعض أصداء تجربتي الحياتية، كما تضمنتها دواويني الثلاثة: "على سبيل التمويه" 2001، "ظهرها إلى الحائط" 2007، و"تمارين لاصطياد فريسة" 2013. وأنا بالمناسبة لست ممن يعتبرون أن الشعر يتراجع فيما الرواية تتقدم. ربما يكون ذلك صحيحا إحصائيا، لكنه غير صحيح من حيث الأثر الذي يتركه كلا الجنسين الأدبيين في ذائقة القارئ عموما وفي إعلاء قيم إنسانية تتشارك الفنون كافة في ترسيخها؛ بطبيعة الحال وليس قصدا بالضرورة. 

حركة النقد في مصر والوطن العربي في الوقت الراهن - للأسف - لا تتابع المشهد الإبداعي بالقدر الكافي   

الدلالة الرمزية لـ "أم كلثوم" المطربة الأكثر شهرة في القرن العشرين وحتى الآن وعلاقتها بعائلة الشخصية المحورية في الرواية الصحفي "حسين عبدالحميد"  باعتبارهما ينتميان إلى مكان واحد ممثلا في مدينة المنصورة، كان وراءه الاتجاه بالرواية الى التاريخ السياسي ومن ثم تأثيره على مجرى الأحداث وما آلت إليه الشخصيات. وهنا اعتبر علي عطا "أن أم كلثوم بطلة الرواية هي معادل على نحو ما لأم كلثوم كوكب الشرق، على الأقل في ضمير السارد الذي لا يخفي عميق تقديره لكفاح الخالة المنتمية إلى وسط عائلي فقير؛ بما أنها نجحت، وهي شبه أمية في تربية خمسة أبناء وإلحاقهم جميعا بالتعليم. هي نموذج لمجابهة الظروف غير المواتية والتغلب عليها، وقد تجسّد في خالة السارد التي ورد اسمها في عنوان الرواية، بما قد يوقع القارئ للوهلة الأولى في التباس يرجع إلى شهرة أم كلثوم المطربة العظيمة التي كانت أيضا نموذجا لكفاح مرير تكلل بنجاح باهر، أولا على مستوى عائلتها التي انتقلت بفضلها من حال إلى حال، ثم على مستوى بلدتها الريفية طماي الزهايرة، القربية من المنصورة، فبات ذلك مدعاة لفخر كل من ينتمي إلى هذا الحيز الجغرافي بشكل خاص، وجميع  المصريين والعرب في كل مكان بشكل عام.        
بطلا روايتي "حافة الكوثر" و"زيارة أخيرة لأم كلثوم" واحد، الأمر الذي شكل تأريخا للذات في اشتباكاتها مع الواقع المعاش سواء كان شخصيا أو عاما ومن ثم الابتعاد عن ما يمكن أن يطلق عليه "سيرة ذاتية"، الأمر الذي لم ينفه على عطا مضيفا "هو كذلك بالفعل. فالسيرة الذاتية الصريحة، غالبا ما تكون أقل مصداقية من الناحية الفنية إذا قارنَّاها بعمل أدبي صريح، ولذلك مثلا توزعت ذاتُ نجيب محفوظ على كثير من أعماله الأدبية، ومنها ثلاثيته الشهيرة "بين القصرين"، و"السكرية"، و"قصر الشوق"، وقد رفض أن يكتب سيرة ذاتية صريحة، وإن كان قد أتاح الفرصة لآخرين أن يكتبوا سيرته من واقع لقاءات مطولة معه، ومنهم رجاء النقاش، فهو أديب وميدانه هو الأدب، وكذلك طه حسين حين كتب "الأيام" وجدناها رواية أكثر منها محض سيرة ذاتية. 
وأضاف: أنا أنظر حتى إلى "الخبز الحافي" لمحمد شكري، على أنها عمل روائي أكثر منها سيرة ذاتية، مع أنها أشتهرت خصوصا في الغرب، باعتبارها سيرة تتسم بجرأة غير معهودة من كاتب عربي. وربما لذلك أوجد النقاد ما يسمى "الرواية السيرية"، لجزمهم الذي ربما يكون خاطئا بأن رواية ما تتكئ حتما على سيرة كاتبها الذاتية، ولكني أؤمن بأن الجزم هنا لا محل له، فمن أين للناقد أن يكون على يقين بأن هذه الرواية أو تلك تتكئ حتما على سيرة ذاتية. فالكاتب الروائي يضفي حتما على شخصياته عناصر من مخيلته، حتى ولو كان هو نفسه أحد تلك الشخوص الواردة في رواية له. وحتى الوقائع، من الذي بمقدوره أن يحكم يقينا بأنها وقعت بالفعل وفق ما تضمنه سردها في عمل روائي؟ الواقع أمر مختلف تماما عن الفن.      
ولفت إلى أنه حرص على اتصال رواية "زيارة أخيرة لأم كلثوم" برواية "حافة الكوثر"، على أن يكون العملين مختلفين وهذا أمر بديهي، بحيث يمكن قراءة كل منهما بمعزل عن الآخر، كما يمكن قراءة العملين باعتبارهما ينتميان إلى نبع واحد، وأتمنى أن يلحق بهما عمل ثالث نابع من المعين نفسه، فنكون بصدد ثلاثية بطلها واحد، هو الصحفي حسين عبدالحميد، الذي يعاني من اكتئاب مزمن، ومكانها الرئيسي هو مدينة المنصورة التي هي مسقط رأس البطل نفسه ومرتع صباه وشبابه، ومنبع ذكريات مؤرقة وأخرى محفزة على صنع غد أفضل.   
وأكد علي عطا أن الصحافة أفادته شاعرا وروائيا، وذلك على صعيد التكثيف اللغوي وتدفق السرد بحيث يتلقاه القارئ سلسا بلا تعقيدات، خصوصا في ما يخص المجاز وغيره مما يسميه البلاغيون المحسنات البديعية. وأكرر أن الحكم على ذلك يستطيعه الناقد والقارئ عموما أفضل مني. لكني أظن أنني اهتديت إلى تكنيك روائي أكثر إحكاما في "زيارة اخيرة لأم كلثوم" مقارنة بما كان عليه ذلك في "حافة الكوثر".  
وأشار إلى أن الزخم الذي تشكله الرواية في المشهد الإبداعي زخم جميل في مجمله، وقد انعكست قيمته في تقدير عدد لا بأس به من الروايات العربية، عبر ترجمتها إلى لغات مختلفة، وعبر الحصول على جوائز دولية مهمة كما حدث بالنسبة إلى الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بحصول ترجمة روايتها "سيدات القمر" إلى الانجليزية على جائزة البوكر البريطانية، والكاتب المصري محمد عبدالنبي بحصول ترجمة إلى الفرنسية لروايته "في بيت العنكبوت" على جائزة معهد العالم العربي في باريس بعد أن فازت بجائزة ساويرس وتضمنتها القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. وهكذا نجد أن بذرة الاهتمام العالمي بالرواية العربية التي عززهها فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 تتنامى وتزهر عبر أجيال جديدة نجحت في على ما أنجزه الرواد. 

Conversations
الواقع الإبداعي شديد الثراء

وأكد علي عطا أن المشهد الشعري خاصة لدى أجياله الجديدة مشهد خصب، بالرغم من أنه لا يجد ما يستحقه من مواكبة نقدية وتقدير الجوائز بالقدر الذي تلقاه الرواية. لا تحضرني الآن أسماء عدد كبير من الشعراء المميزين من الشباب وغير الشباب ممن لا يتوقفون عن إثراء الشعر وتجديده. وأنا بصفتي من مؤسسي ملتقى الشعر المصري الجديد ترسخت لديَّ تلك القناعة عبر ندوات وأمسيات يشارك فيها هؤلاء الشعراء، ومنهم من مصر على سبيل المثال: محمد رياض وعبدالرحمن مقلد وزيزي شوشة وسلوى عبدالحليم وهدى عمران وسناء عبدالعزيزومحمد غازي النجار وسارة علام وأحمد عايد وعزة حسين وسعيد شحاتة.
ورأى أن حركة النقد في مصر والوطن العربي في الوقت الراهن - للأسف - لا تتابع المشهد الإبداعي بالقدر الكافي، أو بالأدق لا تتابعه بالمعايير النقدية التي أرساها نقاد عظام في السابق منهم عبدالقادر القط وشكري عياد وفاروق عبدالقادر، وحتى جابر عصفور وصلاح فضل وفيصل دراج، وبات التنظير خصوصا بالنسبة إلى الأكاديميين منهم، سعيا إلى الترقي، يطغى على التطبيق على الواقع الإبداعي شديد الثراء. حتى النقاد الذين يستعان بهم في لجان تحكيم كثيرٍ من المسابقات الأدبية أصبحوا يثيرون علامات استفهام بخصوص مدى موضوعيتهم في فرز الأعمال التي يفترض أنها جديرة بالفوز بجوائز تلك المسابقات، فتجد مثلا كِتابا يقوم على الاستقصاء الصحفي، يفوز بجائزة في مجال النقد الأدبي، فتسأل كيف وصل أصلا إلى المسابقة، وتجد أعمالا جيدة يتم اقصاؤها لحساب أعمال أقل منها جودة. الخلاصة هي أن الإبداع العربي بخير، أما نقد ذلك الإبداع فيمر بأزمة لا يعلم سوى الله متى تنتهي.