عندما سقط العرب في فخّ حافظ الأسد

سقط حافظ الأسد ضحية اعتقاده ان في استطاعته ان يمارس مع ايران اللعبة التي مارسها مع العرب الآخرين.

عشية مرور الذكرى الاربعين لتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في السادس والعشرين من آذار – مارس 1979، اختار الرئيس دونالد ترامب الإعلان عن اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الاسرائيلية على الجولان السوري المحتلّ. ليست تلك المفارقة سوى دليل على انّ هناك من استغلّ حرب تشرين الاول – أكتوبر في العام 1973 من اجل استعادة ارضه وهناك من استغلّ الحرب لتحقيق انتصارات على شعبه في سوريا وعلى لبنان واللبنانيين وعلى الفلسطينيين.

كانت نتيجة تركيز النظام السوري على الاستيلاء على لبنان وعلى التحكّم بالقرار الفلسطيني الاعتراف الاميركي بما تريده إسرائيل، أي بان الجولان ارض إسرائيلية وجزء لا يتجزّأ من الدفاع عن امنها، بل ان امن إسرائيل مرتبط بوجودها الدائم في الجولان.

صارت المعاهدة المصرية – الإسرائيلية للعام 1979 امرا واقعا بعدما قرّر أنور السادات الذهاب لقدس في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1977 حيث القى خطابا امام الكنيست قال فيه: "جئت اليكم حاملا سلام الشجعان، لا سلام المغلوب على امرهم". غيّر أنور السادات التوازن القائم في الشرق الاوسط كلّه. دفع غاليا ثمن ما فعله عندما اغتيل في العام 1981. لكنّ الأكيد، بغض النظر عن أي تقييم للرجل، ان العرب الآخرين لم يلتقطوا معنى خروج الدول العربية الأكبر من الصراع مع إسرائيل والنتائج التي ستترتب على ذلك. بكلام أوضح، لم يكن هناك فهم عربي لمعنى ذهاب أنور السادات الى القدس من دون الخوض بايجابيات مثل هذه الخطوة او سلبياتها. تعاطى معظم العرب وقتذاك مع الامر من دون ايّ فهم او استيعاب لابعاده.

فرض السادات في نهاية المطاف امرا واقعا كان لا بدّ من التعاطي معه بطريقة عملية بعيدا عن أي نوع من الرومانسية والكلام المضحك-المبكي عن شقّ صف العربي. حسنا، شقّ السادات الصفّ العربي. ثمّ ماذا؟ ما نفع البكاء على الاطلال والسعي الى عزل مصر، اللهمّ الّا اذا كان المطلوب التضامن مع حافظ الأسد، وزير الدفاع السوري في العام 1967... من اجل استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة الي ما لا نهاية.

المؤسف ان من فهم، بين العرب، معنى خروج مصر لم يستطع ان يفعل شيئا في ظلّ تهديدات البعثين السوري والعراقي اللذين اتفقا فجأة على عزل مصر على الرغم من انّه لم يكن هناك ما يجمع بينهما. ما يدفعه العرب اليوم هو ثمن عزل مصر بسبب توقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل. عُزلت مصر ونقل مقرّ جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس. هل ساهم ذلك في تحرير شبر من فلسطين او من الأراضي العربية الأخرى المحتلّة، في مقدّمها الجولان؟

لم يوجد من يسأل في العام 1977، عندما زار الرئيس المصري القدس، هل كان امام أنور السادات خيار آخر غير الذهاب الى النهاية في السلام مع إسرائيل؟ اخذ معمّر القذّافي وحافظ الأسد المبادرة وجرّا الجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية، المغلوب على امرها، الى انشاء "جبهة الصمود والتصدّي" التي سرعان ما انضم اليها العراق الذي تصرّف بمقدار كبير من الحذر في البداية قبل ان يضع نفسه في خدمة النظام السوري. ليس معروفا الى يومنا من اخذ العراق الى موقع حليف النظام السوري في وقت كان عليه ان يترك حافظ الأسد تدبّر اموره مع أنور السادات الذي خاض معه "حرب تشرين" باللغة السياسية السورية و"حرب أكتوبر" باللغة السياسية المصرية.

يتبيّن مع مرور كلّ هذه السنوات انّ الرئيس المصري وجد نفسه وقتذاك في وضع لا يحسد عليه. اكثر من ذلك، لم يكن في استطاعة ايّ طرف عربي مساعدة مصر التي واجهت في مطلع العام 1977 ازمة اقتصادية خانقة أدت بين ما ادّت اليه الى اضطرابات داخلية كان لا بدّ من الاستعانة بالجيش لاحتوائها. بين عقل عملي يهمّه انقاذ مصر، هو عقل أنور السادات، وعقل عملي من نوع آخر، هو عقل حافظ الاسد، يهمّه استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة، اختار العرب، في ظلّ التهديد والابتزاز، الخضوع للبعثين السوري والعراقي، أي الى عقل حافظ الأسد. سقطوا بكلّ بساطة ضحيّة هذا العقل الذي لم يرد في يوم من الايّام استعادة الجولان، بل المتاجرة به.

ما نشهده اليوم هو السقوط العربي في فخّ حافظ الأسد الذي عرف وقتذاك كيف يتلاعب بمعمّر القذّافي وهواري بومدين وتهديد ياسر عرفات في وقت كان اليمن الجنوبي مجرّد أداة سوفياتية. ليس معروفا الى الآن كيف سقط احمد حسن البكر وصدّام حسين في أحضان حافظ الأسد وسارا في لعبته بدل طرح سؤال في غاية البساطة. هذا السؤال هو لماذا كانت حرب 1973؟ هل كان هناك من يعتقد ان حرب "تشرين" او "أكتوبر" ستؤدي الى تحرير فلسطين؟

عرف السادات توظيف نتائج الحرب في اتجاه معيّن في حين وظّفها النظام السوري الذي ما لبث ان عوّض حلفه السابق مع مصر بحلف جديد مع ايران من جهة واحكام سيطرته على لبنان من جهة اخرى...

يكشف الموقف الاميركي القاضي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان انحيازا فاضحا الى اليمين الإسرائيلي الذي يراهن على خلق امر واقع جديد على الأرض. يبدو الحليف الاوّل لهذا اليمين الإسرائيلي المشروع التوسّعي الايراني. جعل هذا المشروع الايراني الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية يتراجع الى حد كبير، خصوصا في ظلّ سقوط العراق وما حدث ولا يزال يحدث في سوريا، إضافة بالطبع الى التغيير الكبير لموازين القوى في لبنان وما آلت اليه الاوضاع في اليمن.

ما لا يمكن تجاهله في التبرير الاميركي للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان هو الإشارة الى الخطر الايراني على إسرائيل انطلاقا من الأراضي السورية. اخذت ايران المنطقة الى مكان آخر لا مستفيد منه، الى اشعار آخر، سوى اليمين الإسرائيلي الذي تدعمه إدارة أميركية لا تعير ايّ قيمة للقانون الدولي وقرارات مجلس الامن.

بعد أربعين عاما على توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية في مثل هذه الايّام من العام 1979، يتبيّن كيف سقط العرب ضحيّة الفخ الذي نصبه لهم حافظ الأسد. كان الفلسطينيون الضحيّة الاولى لهذا السقوط. فلدى توقيع اتفاقي كامب ديفيد في أيلول – سبتمبر 1978، كان احد هذين الاتفاقين مخصصا للفلسطينيين في وقت كان عدد المستوطنين في الضفة الغربية محدودا وليسوا بمئات الآلاف كما الحال الآن. اما سوريا، فهي تدفع ثمن اخذها الى الاحضان الايرانية بعيدا عن مصر. سقط حافظ الأسد ضحية اعتقاده ان في استطاعته ان يمارس مع ايران اللعبة التي مارسها مع العرب الآخرين. الفارق بينه وبين أنور السادات انّ الرئيس المصري الراحل كان مهتمّا بمصر واستعادة الأراضي المصرية المحتلة في 1967، في حين كان همّ الأسد الاب تكريس الهدوء في الجولان المحتلّ والانصراف الى تحقيق انتصار على لبنان وعلى الفلسطينيين.