عندما يُفسرون: والشَّمس تجري لمستقر لها

للمدرسة النصوصية القدح المعلى في انزلاق الحضارة الإسلامية نحو حالة الجمود المستمرة منذ عدة قرون.

 

بقلم: بابكر فيصل

يعاني التيار الإسلامي النصوصي من العديد من المشكلات في تفسير النصوص الدينية، ذلك لأنه يضع العقل في تضاد مع النقل حينما يعجز عن قراءة النص في سياقه التاريخي (بالنسبة للقرآن)، وعندما لا يأخذ في الاعتبار إشكاليات النقل (تدوين السنة) فضلا عن عدم لجوئه لتأويل النص في الأمور التي تُناقض مسلمات العقل.

هذه المشكلات تضع أصحاب العقل النصوصي في تناقض مع الحقائق التي توصل إليها العلم، ومنها ما يرتبط بتفسير الظواهر الطبيعية، حيث يتمسك النصوصيون بالتفسير الحرفي لآيات القرآن والأحاديث النبوية (السنة) وإن كانت نتائج ذلك التفسير تتعارض مع بديهيات علمية.

من بين النصوص الكثيرة التي تعارض حقائق العلم، ما جاء في صحيحي مسلم والبخاري من أحاديث منسوبة للرسول الكريم حول ظاهرة غروب الشمس، وهو الأمر الذي سأتعرض له بالنظر في هذا المقال.

جاء في كتاب "بدء الخلق" باب صفة الشمس والقمر بحسبان في صحيح البخاري، وكذلك في كتاب "الإيمان" باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان في صحيح مسلم الحديث التالي: عن أبي ذر: "كنت مع النبي في المسجد عند غروب الشمس، فقال: "يا أباذر أتدري أين تغرب الشمس؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى: "والشمس تجري لمستقر لها".

وفي رواية أخرى للشيخين للحديث نفسه بسندهما: عن أبي ذر أن النبي قال يوما: "أتدرون أين تذهب هذه الشمس"؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة وما تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها" فقال رسول الله: "أتدرون متى ذلكم ذاك حين "لا ينفع نفسا إِيمانها لم تكن آمنت من قبل أَو كسبت في إِيمانها خيرا" (الأنعام 158).

في رواية ثالثة لمسلم بسنده عن أبي ذر، قال: دخلت المسجد ورسول الله جالس، فلما غابت الشمس، قال: "يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟" قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها "، قال: ثم قرأ في قراءة عبد الله: وذلك مستقر لها.

عند النظر إلى هذه الأحاديث نجد العديد من التناقضات والتضارب في متنها، فعلى سبيل المثال فإن الروايتين الأوليين تعتبران ذهاب الشمس إلى تحت العرش بعد الغروب هو المقصود بالقول "والشمس تجري لمستقر لها" بينما الرواية الثالثة تعتبر أن طلوع الشمس من مغربها هو مستقرها.

ومن ناحية أخرى، فإن الروايتين الأولى والثالثة تعتبران أن سؤال الرسول الكريم كان موجها لأبي ذر فقط بينما الرواية الثانية تقول إن السؤال كان موجها لجميع الحاضرين.

كذلك فإن الروايتين الأوليين تقولان إن الشمس عندما تذهب لمستقرها تخرُّ ساجدة بصورة مباشرة بينما الرواية الثالثة تقول إنها تستأذن أولا ثم تسجد بعد أن يؤذن لها.

أيضا يحتوي متن الرواية الثالثة على خلل بيِّن عند القول "ثم قرأ في قراءة عبد الله"، والمقصود به قراءة عبد الله بن مسعود، ومن البديهي أنه لا يمكن أن يقول النبي مثل هذه الجملة.

من الجلي أن راوية الأحاديث أعلاه كان متأثرا بمعطيات العصر الذي عاش فيه، وهو عصر ساد فيه اعتقاد بأن الأرض مسطحة، وأن الشمس تكون في حركة مستمرة من الشرق إلى الغرب. وإذ اعتقد الراوي وجوب أن يكون للشمس مكان تنتظر فيه بين الشروق والغروب، فقد اختار لها أن تظل ساجدة تحت ظل العرش حتى يؤذن لها فتتحرك من جديد!

إذا كان مقبولا تمرير ذلك الاعتقاد في الماضي السحيق، فإن من غير المعقول استمرار مثل هذه التصورات والتفاسير في القرن الحادي والعشرين حيث أثبت العلم منذ عدة قرون كروية الأرض ودورانها حول الشمس.

مع ذلك فإن شيوخ التيار النصوصي (السلفي) ما زالوا يعارضون الحقائق العلمية الساطعة ويقولون إن الأرض غير كروية ولا تدور حول الشمس. هذا ما قال به مفتى المملكة العربية السعودية السابق، عبد العزيز بن باز، وما أيده فيه جل الشيوخ السلفيين، ومنهم محمد بن صالح العثيمين الذي أكد أن "ظاهر الأدلة الشرعية تثبت أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وبدورتها يحصل تعاقب الليل والنهار على سطح الأرض".

قد كشف العلم (العقل) عبر التجربة قوانين الطبيعة (الفيزياء) مثل الجاذبية، وتكوين المادة مثل أن الماء يتكون من ذرتي هايدروجين وذرة أوكسجين، وعلى أساس التجربة قامت التطبيقات على العلوم بإحداث النقلة التقنية الهائلة التي أوصلت الإنسان للقمر وجعلت من الممكن فحص التربة في كوكب المريخ.

لقد أدى التطور العلمي كما يقول الدكتور أحمد زويل إلى انكماش الزمان والمكان، وحلت مقاييس جديدة ومرعبة في قياس ذلك الانكماش "فأصبح المريخ على بعد دقائق من الأرض، وأصبح بمقدور العلم أن يعبر الي داخل الثانية تفتيتا وتجزيئا.. إلى واحد على مليون على بليون منها)، وعلى الرغم من ذلك لا يؤمن شيوخ السلف النصوصيون بنتائج العلم ويُصرّون على أن الأرض مستوية ولا تدور حول الشمس؟

إن القوانين العلمية التي أنتجت السيارة والطائرة التي يستمتع بركوبها شيوخ السلف، والإنترنت الذي يبثون من خلاله أفكارهم الجامدة، هي ذات القوانين التي قالت بدوران الأرض حول الشمس، وهي ذاتها التي أجبرت الكنيسة على الاعتذار للفلكي والفيزيائي الإيطالي "جاليليو غاليليه" عن الاضطهاد الذي واجهه من قبل الكنيسة في القرن السادس عشر عندما صدح بقوله إن الأرض تدور حول الشمس.

قد كان للمدرسة النصوصية القدح المعلى في انزلاق الحضارة الإسلامية نحو حالة الجمود المستمرة منذ عدة قرون، وذلك بعد أن استطاعت التيارات العقلانية إحداث حالة من التفوق الحضاري (بلغت أوجها في القرن الرابع الهجري) الذي نتج عن التفاعل مع الحضارات الأخرى، خصوصا اليونانية، مما أدى لازدهار العلوم بشكل غير مسبوق.

إذ يتطلع المسلمون اليوم للصعود مرة أخرى في مراقي الحضارة، فإن ذلك يتطلب الانفتاح على العالم وهو الأمر الذي يتطلب سيادة المدارس الفكرية التي تعلي من شأن العقل وتمهد الطريق لخلق البيئة التي تسمح بنقد التراث لمواكبة العصر وفتح الأبواب والنوافذ لنقل وتوطين العلوم من أجل إحداث النهضة المنشودة.

نشر في صفحة الحرة