عن رجل عظيم اسمه جورج بوش الاب

تكفي المقارنة بين حكمة بوش الأب وحماقة بوش الإبن لمعرفة كم تغيرت الولايات المتحدة.

في عهده، اعلن رسميا عن نهاية الاتحاد السوفياتي. تعاطى مع احد اهمّ الاحداث التي شهدها القرن العشرين بكلّ رقيّ. كان في مستوى الحدث وجعل اميركا التي تحوّلت الى القوة العظمى الوحيدة في العالم تتعاطى مع سقوط الخصم الاوّل لها وتتويج انتصارها في الحرب الباردة بشكل لائق بعيدا كلّ البعد عن الشماتة. هذه تصرفات لا يقدم عليها سوى الكبار من طينة جورج بوش الاب احد اعظم الرؤساء الاميركيين.

كان الاعلان الرسمي عن انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع العام 1992 بعدما شارك جورج بوش الاب، مع ميخائيل غورباتشوف، في رعاية مؤتمر مدريد الذي شكل في تشرين الاول – أكتوبر من العام 1991 احدى المحاولات الجدية القليلة لإيجاد تسوية في الشرق الاوسط.

حرص بوش الاب الذي توفّى قبل أيام عن أربعة وتسعين عاما على اشراك الاتحاد السوفياتي برئاسة مؤتمر مدريد، حفاظا على ماء الوجه لغورباتشوف. فعل ذلك على الرغم من معرفته التامة بان القوّة العظمى الأخرى في هذا العالم انهارت عمليا وذلك في اليوم الذي انهار فيه جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. كان رئيسا اميركيا متميّزا. كان يتمتع بخبرة طويلة في السياسة الخارجية ومعرفة العالم بعدما شغل مناصب مهمّة عدّة قبل دخوله البيت الأبيض مطلع العام 1989. كان سفيرا للولايات المتحدة لدى الامم المتحدة ثمّ سفيرا في الصين ومديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي. آي. إي" قبل ان يصبح نائبا للرئيس لمدة ثماني سنوات في عهد الرئيس رونالد ريغان بين 1981 و1989.

امضى جورج بوش الاب اربع سنوات رئيسا. لم يستطع الحصول على ولاية ثانية لأسباب عدّة من بينها تراجع الاقتصاد الاميركي في السنة الأخيرة من عهده واضطراره الى رفع الضرائب بعدما كان وعد في اثناء حملته الانتخابية بعدم اللجوء الى ذلك.

لكنّ الإنجاز الأكبر لبوش الاب يظلّ تحرير الكويت في شباط – فبراير 1991 وامتناعه عن اصدار امر الى الجيش الاميركي وقوات التحالف الدولي بالذهاب الى بغداد لإسقاط نظام صدّام حسين.

كان جورج بوش الاب ينتمي الى مجموعة صغيرة من الرؤساء الاميركيين الذين استطاعوا لعب دور في تغيير العالم. لا يمكن مقارنته الّا برؤساء من طينة دوايت ايزنهاور الذي اجبر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من الأراضي المصرية في اعقاب حرب السويس في العام 1956. أراد ايزنهاور افهام بريطانيا وفرنسا وإسرائيل انه لم يعد هناك سوى قائد واحد للمعسكر الغربي في العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة. أراد أيضا تذكير بريطانيا وفرنسا ان الفضل في انتصار الحلفاء على المانيا في تلك الحرب يعود اوّلا وأخيرا الى الولايات المتحدة وانّه لا يحقّ لهما خوض حروب من خلف ظهرها بالتفاهم مع إسرائيل او غير إسرائيل.

في كلّ ما فعله بعد الاجتياح العراقي للكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990، اظهر جورج بوش الاب صفات قيادية وحكمة واستيعابا اميركيا لا سابق له للوضع في الشرق الاوسط خصوصا ولما يدور في العالم عموما. اصرّ على ان يكون تحرير الكويت بفضل تحالف دولي يحظى بتغطية الامم المتحدة. التزم القانون الدولي بحرفيته رافضا أي مغامرات من ايّ نوع في وقت كانت الولايات المتحدة تمتلك هامشا للمناورة لا سابق له في التاريخ الحديث في غياب أي منافس لها، او معترض على سياساتها في الساحة العالمية. عرف ان مهمّة التحالف كانت تقضي بالتوقف عند حدود الكويت واعادتها الى أهلها. ادرك ان الذهاب الى صدّام حسين في بغداد، على الرغم من كلّ ما ارتكبه من فظاعات، سيعني انهيارا كاملا للعراق وللتوازن الإقليمي الذي لن تستفيد منه الّا ايران. لم يمنع ذلك إدارة بوش الاب من وضع حدود لما يستطيع النظام العراقي عمله عندما لعبت ادارته دورا في إقامة منطقتي حظر جوي في شمال العراق وجنوبه. كانت منطقة الحظر الجوي في الشمال وراء حصول الاكراد على نوع من الاستقلال في اطار الكيان العراقي.

كان على ايران ان تنتظر اثني عشر عاما لتجد من يقدّم لها العراق على صحن من فضّة. من فعل ذلك في العام 2003، كان جورج بوش الابن الذي تحوّل انتصاره في السباق الرئاسي ودخوله البيت الأبيض بداية السنة 2001 الى كابوس ما زالت المنطقة كلّها تعاني من تأثيراته. على خلاف والده، لم تكن لدى بوش الابن أي رؤية استراتيجية واضحة للعالم تنمّ عن وجود مقدار من الحكمة يطبع تصرفاته، خصوصا بعدما ذهب الى العراق قبل الانتهاء من أفغانستان وربطه بين صدّام حسين واسامة بن لادن، وهو ربط لا أساس له.

يفتقد العالم في هذه الايّام جورج بوش الاب وفريق عمله، الذي ضم وزير الخارجية جيمس بيكر ومستشار الامن القومي برنت سكاوكروفت، اكثر من ايّ وقت. يفتقد إدارة كانت تذكّر بإدارة ايزنهاور الذي اجبر إسرائيل على الانسحاب من سيناء في العام 1956 واكد ان المغامرات العسكرية لا تتم من دون اذن أميركي. ما لا بدّ من تذكّره هذه الايّام انّ إدارة بوش الاب منعت إسرائيل من أي تدخل في حرب تحرير الكويت، حتّى بعدما ارتكب صدّام حسين حماقة اطلاق صواريخ في اتجاه الضفّة الغربية.

قبل تحرير الكويت وفي اثناء حرب التحرير، أجبرت ادارة بوش الاب إسرائيل على قبول بطاريات صواريخ "باتريوت" في أراضيها تديرها طواقم أميركية. كان ذلك حدثا في حدّ ذاته، نظرا الى ان الإسرائيليين كانوا يرفضون دائما ايّ وجود لقوات عسكرية اجنبية تدافع عنهم. ما فعله بوش الاب، وربما دفع ثمنه غاليا في مرحلة الترشح من اجل ولاية ثانية تمثّل في جرّ إسرائيل جرّا الى مؤتمر مدريد السلام استنادا الى قرار مجلس الامن الرقم 242 المبني على مبدأ الأرض في مقابل السلام.

كانت إدارة بوش الاب آخر إدارة أميركية تتصرّف من منطلق أميركي بحت، من منطلق ان اميركا تمتلك مبادئ عظيمة لا تستطيع الخروج عنها. كلّ ما حصل بعد فشل الرجل في العودة الى البيت الأبيض وخسارته امام بيل كلينتون هو دخول في مرحلة الإدارات الاميركية ذات المواقف الرمادية التي تشبه باراك اوباما او التي لا تعرف الكثير عن المنطقة والعالم باستثناء إدارة دونالد ترامب. صحيح انّ لا مجال لاي مقارنة بين خبرة بوش الاب في العالم ورجل الاعمال الذي اسمه دونالد ترامب، لكنّ الصحيح أيضا انّ ترامب لم يتردّد في تحديد سياسة واضحة تجاه ايران والخطر الذي يمثّله مشروعها التوسّعي.

هل يصلح ترامب قبل انتهاء ولايته الاولى ما افسده بوش الابن الذي ارتكب جريمة احتلال العراق رافضا ان يتعلّم شيئا من حكمة والده وما كان يمثله ويجسّده على الصعيد الأخلاقي اوّلا؟ قال بوش الاب في تفسيره السبب الذي دفعه الى تفادي ملاحقة صدّام حسين وجيشه داخل الأراضي العراقية ما معناه ان الولايات المتحدة اخذت على عاتقها تحرير الكويت، لكنها ترفض طعن جيش من الخلف خلال عملية انسحاب له.