عولمة الأوبئة بعد عولمة الاقتصاد

باريس - الخطر يتفشى في كل اتجاه؛ فالحمى القلاعية من جانب، وجنون البقر من جانب آخر، بينما ما زالت فضائح الأعلاف الملوثة بالديوكسين عالقة بالأذهان. فهذه الآفات لم تعد بالأمر النادر في عالمنا الصغير، وهي أوبئة تثير مخاوف المستهلكين في كل أنحاء العالم. ولكنّ السؤال المطروح اليوم بقوة على ضوء تداعيات هذه الأمراض الماحقة هو؛ هل دخلت البشرية حقاً حقبة "عولمة الأوبئة"؟!
فقد دعا الدكتور جاك ضيوف، المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة "فاو" التابعة للأمم المتحدة، إلى "وضع خطة عمل عالمية لاحتواء المرض ومكافحته تدريجياً من مصادره في الدول النامية".
لكنّ ضيوف سارع إلى قطع الطريق على المتفائلين بقوله "على الرغم من أهمية التخطيط للطوارئ وتدعيم رقابة الحدود وتفتيش البضائع للسيطرة على تفشى المرض؛ فلن يكون ذلك كافياَ لمكافحة خطر انتشار المرض دولياً".
الحمى القلاعية تتفشى عبر القاطرات والرياح
المعروف أن مرض الحمى القلاعية شديد العدوى ويمكن أن ينتشر بسرعة كبيرة في أوساط الماشية عن طريق انتقال الحيوانات والمنتجات الحيوانية المصابة والوسائط الملوثة. أي أنّ القاطرات قد تؤدي إلى نشره، تماماً كقدرته على التفشي عبر حركة الرياح.
ويرى المسؤول الدولي أنه "من الممكن تقليل خطر مثل هذا المرض المفزع بصورة مؤثرة.
ومع ذلك، ففيما يتعلق بأمراض الحيوانات فإننا نحتاج إلى نظام مماثل للنظام الذي طورته المنظمة (منظمة الأغذية والزراعة) فعلياً، للمحاصيل الغذائية، أي النظام العالمي للإعلام والإنذار المبكر للأمراض الحيوانية العابرة للحدود، والذي يأخذ بعين الاعتبار التقارير الرسمية للمكتب الدولي للأمراض الوبائية، وبحوث الأمراض والدراسات الوبائية والمخبرية في الدول لتحسين النظام الدولي للإنذار المبكر"، كما ذكر موضحاً.
والمعلوم أيضاً أنّ العديد من الأمراض المعدية للحيوانات، وأهمها مرض الحمى القلاعية، تتفشى عن طريق تجارة الماشية والمنتجات الحيوانية؛ سواء بصفة قانونية أو غير قانونية.
فعلى سبيل المثال؛ من المرجّح أن تكون هناك سبعة من أصل إحدى عشر موجة من الموجات الرئيسة لتفشي المرض، والتي وقعت في أوروبا بين عامي 1991 و1999؛ قد حدثت بسبب "الاستيراد غير القانوني" للماشية والمنتجات الحيوانية.
الأوبئة العابرة للقارات
من المحتمل أن تكون أحدث موجة للوباء في الجزر البريطانية، وبخاصة ذلك النوع الشرس الذي يعرف باسم "بان آشيان" (PAN ASIAN) قد وقعت بسبب تغذية الخنازير بالفضلات الملوثة. ومن ثم فقد انتشر الفيروس من بريطانيا إلى أيرلندا وهولندا عن طريق تجارة الحيوانات. وكانت الكارثة مذهلة حقاً؛ فقد تم التخلص من حوالي أربعة ملايين رأس من الحيوانات سنة 2001 في أوروبا وحدها بهدف استئصال وباء الحمى القلاعية.
وقد انتشر وباء الحمى القلاعية من نوع "بان آشيان" بصورة كبيرة ومقلقة في أنحاء العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، إذ تم العثور عليه أولاً في جنوب آسيا سنة 1990، ثم انتشر في ماليزيا والصين واليابان وروسيا ومنغوليا، بالرغم من أنّ بعض هذه البلدان كانت خالية من وباء الحمى القلاعية لعدة عقود.
كما تحرك المرض غرباً إلى الشرق الأوسط سنة 1994، ثم إلى تركيا واليونان وبلغاريا سنة1966 حيث توقف هناك. ثم انتشر في بريطانيا مباشرة بعد وصوله إلى جنوب أفريقيا سنة 2000.
وما لبثت أن حدثت موجة إصابة أخرى رئيسة مؤخراً في شمال أفريقيا، واستمرت الموجة الأولى لوباء الحمى القلاعية لفترة عقد تقريباً، بينما كانت نوعية الفيروس مماثلة لتلك التي انتشرت في غرب أفريقيا، وهو ما يوضح أنّ الصحراء لم تعد عائقا أمام حركة الماشية ومسببات المرض كما كانت من قبل.
وبعد التقدم الملحوظ الذي تم إحرازه في التخلص من وباء الحمى القلاعية في أمريكا اللاتينية؛ اختلف الوضع تماما في العامين الماضيين بعد موجة تفشى الوباء، بسبب نوعين مختلفين من الفيروسات في الأرجنتين والبرازيل وأورغواي.
وأصبح وباء الحمى القلاعية في إقليم الأنديز بأمريكا الجنوبية وأفريقيا الاستوائية والشرق الأوسط وجنوب آسيا وعدة أنحاء أخرى من شرق أسيا؛ مشكلة دائمة ومؤرقة للمزارعين القائمين على تربية الحيوانات. وتلاحظ منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أنّ هذا المرض كان سبباً رئيسياً لمنع الدول من المشاركة في التجارة الدولية لمنتجات الحيوانات.
إطلاق ناقوس الخطر
دفعت خارطة التحرك المرعبة لوباء الحمى القلاعية الدكتور ضيوف إلى إطلاق ناقوس الخطر، إذ يقول؛ "مع تزايد العولمة فإنّ هناك احتمالات لانتشار مختلف أنواع مرض الحمى القلاعية بصورة أكبر من موطنها الأصلي للدول النامية؛ ما لم يتم اتخاذ إجراءات فعالة للسيطرة على المرض في مصادره، أي في المناطق التي يتوطن فيها"، حسب ما يرى.
ولا ينسى المسؤول الزراعي الدولي أن يذكِّر الدول الصناعية بالمكاسب التي يمكن أن تجنيها جراء إسهامها الفاعل في مكافحة الوباء؛ إذ "يعود التصدي لمرض الحمى القلاعية والأمراض الأخرى التي تصيب الحيوانات في الدول النامية بالفائدة على الدول الصناعية، فدعم الدول النامية في معركتها مع الأمراض التي تنتقل للحيوانات عبر الحدود؛ يقلِّل من خطر تفشي وباء الحمى القلاعية في الدول المتقدمة"، كما يقول ضيوف.
وبصفة عامة؛ فإنّ منع وصول مرض الحمى القلاعية في الدول التي تخلو عادة منه يقوم على أساس الرقابة الصارمة على حركة الحيوانات وذبحها، والتخلص من الحيوانات المصابة أو المهددة بخطر المرض. ولذلك فإن خطوة "الإبادة" يمكن إكمالها أو لا يمكن إكمالها عن طريق التلقيحات.
ويمكن السيطرة على المرض بصفة أساسية عن طريق التلقيح الدوري، وذلك هو أكثر الخيارات واقعية حالياً أمام الدول النامية، إذ أثبت هذا الحل نجاحه في أمريكا الجنوبية، كما تم استخدامه بنجاح للسيطرة على المرض في أوروبا.
ودعت منظمة الأغذية والزراعة "فاو" الدول الصناعية لمساعدة الدول النامية؛ كي تتمكن من توجيه أبحاثها والسيطرة على الأمراض التي تنتقل إلى الحيوانات عبر الحدود، وحثتها على تشجيع التجارة الآمنة للحيوانات والمنتجات الحيوانية، كما أكدت على ضرورة تعزيز الخدمات البيطرية وتدعيمها في الدول النامية.
ومن الواضح على ضوء هذه الحقائق؛ أن مخاوف "عولمة الأوبئة" تبدو واقعية تماماً، ومثيرة للذعر أيضاً، ما يعني أنه من المستبعد في الأمد المنظور انحسار أنباء الأوبئة والأمراض التي تفتك بالثروة الحيوانية وتهدد صحة الإنسان مباشرة.