"غرفة الأكاذيب" شخصيات مركبة تطل من شقوق الجنون 

الساردة في مجموعة هند الزيادي القصصية عاشت حالات إبداعية خاصة انعتق فيها خيالها عن الوعي.
الراوية "مريم" تنطلق في قصة "الغائبة" من صورة حسية هي الشجرة للخروج من حالة الانطواء والغرابة
الإشباع عبر التعويض والإزاحة عن التمثلات الأسطورية للشجرة التي يقدمها الموروث الحكائي

بقلم: هيام الفرشيشي

حين انتهيت من قراءة المجموعة القصصية "غرفة الاكاذيب" لهند الزيادي، وقد أدرجتها ضمن  محور "ادب الجنون" في "بيت السرد" بدار الثقافة ببن عروس؛ راودتني عبارة "الأدب جنون". هذا يعني ان الساردة عاشت حالات إبداعية خاصة انعتق فيها خيالها عن الوعي، لينقلنا الى عوالم شخصيات تعيش هوسا ما، لها سلوكات تغذيها جذور اللاوعي، جعلتها تخرج بمظهر مخالف للسائد، لتقدم من خلالها القاصة رؤية جديدة فيها الكثير من التلوينات تشد القارئ إلى عوالمها من خلال أفكار مجنونة تزرعها في شخصياتها لتعيش غرابة أحلامها، وتناقض أفعالها وتشبثها بما يفرط فيه الآخرون. 
تنطلق الراوية "مريم" في قصة "الغائبة" من صورة حسية هي الشجرة للخروج من حالة الانطواء والغرابة، وبناء علاقة ملتحمة معها، وكأنها صارت من صلبها بل تتحول إلى حقيقة تعوض أخرى غائبة، ولكنها تحمل لها نفس الإحساس، فتتحول الشجرة إلى صورة الأم الغائبة بالموت عبر الإشباع النفسي، وبذلك نستشف أنها تعبر عن مرحلة الطفولة المبكرة وهي حليبية حسية، يقترب فيها طعم ثمار شجرة التوت من التجربة الحليبية الفموية التي تنتهي بالفطام / الموت لتجد فيها ما يعيد لها طعم الحليب من ثدي الأم كأغصان شجرة تحوي الثمار بعصيرها الأشبه بسائل منعش.
ولا ينفصل هذا الإشباع عبر التعويض والإزاحة عن التمثلات الأسطورية للشجرة التي يقدمها الموروث الحكائي أحيانا بأنها تحول لبقرة مرضعة بعد دفن عظامها في حفرة، والاسطورة تعبيرة طفولية تعيد خلق الروح في الكائنات الطبيعية لتستمد الأم حضورها من خلال رمز الشجرة.
وتشبث الراوية بأغصان شجرة التوت فلأنها تذكرها بذراعي أمها حين تراقصها عبر صورة فيسيولوجية، إذ تجعلنا نستشف أنها تذكرها بطفولتها، فشجرة التوت عالية طول الأم وقصر قامة الأطفال، كلما لاعبتها أو حملتها تبدو أذرعها كأغصان شجرة تقف على جذع. وبذلك تنسج مع الشجرة علاقة إذ تجذر بقاء الأم واستنساخها. ومن ثمة تخرج الراوية من انطوائها كلما احتضنت الشجرة كنوع من العلاج من روح الشجرة الخيرة التي ترمي بثمارها. 

نقد القصة التونسية
لا نسيم في مدينتنا

تستعرض العناصر الغائبة وحنينها لها بقولها في قصة "الغائبة": "لا نسيم في مدينتنا"، وهي تعمل ممرضة غريبة الأطوار تصاحب المرضى آخر أيامهم وتحبس نفسها "داخل فقاعة زجاجية خيالية لا تسمع فيها شيئا يؤذي أذنها ولا ترى ما يجرح عينيها".
تستحضر رائحة التراب المبلل بحبات المطر الأولى. كانت تلك الرائحة طرقها الغريبة في إيجاد طريقها إليها كلما استدعتها، تترشف كأس الماء بطعم البئر في قلة فخارية، تتذوق الأكل الذي تعده أمها بأناة على كانون منذ الصباح على نار الحطب الهادئة في إناء فخاري. 
هي تستحضر الغائب الذي تجسد في صورة الشجرة "خيل لمريم أن ضحكات تخرج من تلك الأغصان، كأنها عصافير جذلى اتفقت على الانطلاق دفعة واحدة"، لم تعد تشعر أن الشجرة عارية في عالم الصقيع مجردة من الإحساس بل "ربطت الشجرة بقرطتها وألبستها التخليلة ولفتها بها وعانقتها" فهي تعانق غصني الشجرة في تعويض لذراعيها، لذلك اهتدت إلى يقين ما بأن الإنسان هو الذي يحيي ويميت الكائنات التي تحقق جدوى الوجود فرفضت قطع الشجرة من طرف سكان الحي. وانبرت في صورة غير هادئة حافية شعرها يتهدل وشدت نفسها إلى جذع الشجرة، في تناص مع مريم العذراء في القرآن والشجرة التي عاشت تحتها مخاض الولادة وأكرمتها بثمراتها.
ولا يخلو المشهد الاخير في القصة من تعامل البشر مع الشجر فهو لا يرى إلا أوساخها حين تغير أوراقها كما يغير هو ملابسه، وكأنها ليست معنية بالتطهر من أوساخها وهو يحارب ما يمثل امتدادا له ليعيش حالة من العراء الروحي وخنق أنفاسه كلما تخلص من هوائها النقي باجتثاثها، بل الشجرة هي الكائن الوحيد الذي يبقى واقفا حتى وإن فقد قدرته على الإنجاب كثدي كف عن نز الحليب ويستثير في الذات الغائب بل تحمل بين طياتها ذاكرة الإحساس بالإشباع الطبيعي. 
وفي قصة "ليلة هادئة جدا" انبلجت الراوية في حالة قريبة من الغياب عن  الوعي وفي حالة الأرق أو الإرهاق وهي تعيش حالة تشويش وعدم القدرة على الكتابة، إلا أنه أثناء الحلم تتداخل عناصر الواقع مع تخيلات ومع شخصيات قصصية كتبتها أو قرأت عنها ليتشكل المشهد الروائي في عالم الغرفة التي تحاصره، ثم تنفتح على عوالم أخرى وتعيش الراوية بين الوعي واللاوعي، وأحيانا تخبرنا بأنها واعية بما ترويه، ولكن كل شيء ممكن في إعادة انفتاح أشياء الغرفة على عوالم وشخصيات أخرى، وكان الحلم يرسم الواقع بل يقتحمه ويحول من الخيالات إلى حقيقة أخرى بصورها وأصواتها وحركاتها وتصميمها. إنه اللاوعي الإبداعي الأشبه بالجنون، أشياء تخرج من الذاكرة ومن عمق المبدع بل تفتح عمقا في الخيال ولكنه يرجع للواقع بل يبعث فيه حالة من الرعب والقلق، فما أن يستقر على حافة شاطئ الأمان حتى تصفعه موجات قوية لا تتكسر؛ خاصة وأن الراوية تعيش في غرفة هي عبارة عن مكتبة كتب تغيب تفاصيلها عن الوعي ولكنها لا تغيب عن اللاوعي، لوحة تجسد حلما بعيدا يحقق حالة من الاسترخاء له جذور طفولية. 

تستحضر رائحة التراب المبلل بحبات المطر الأولى
هند الزيادي

هذا إلى جانب تركيب عناصر جديدة للغرفة نوى التمر التي وجدت تحت المخدة وأصوات وشوشات وهمسات وضحكات  جذلى وصوت نسائي هو صوت الأميرة الأبانوسية من قصتها الصحراء، فالنوى هي من بيئة الصحراء بل الواحات التي تتعتق فيها ملامح شخصيات كالأبانوس، كما نجد حالة من تداخل شخصيتها القصصية مع شخصيات أخرى مثل شخصية خرجت من نوفيلا هاروكي موراكامي، وهي حالة تدافع بين الحلم والوعي لدرجة أن الراوية واعية بحالتها تلك، و"ثمة شيء غريب يحصل ان لم يكن جنونا فلست أدري ما الجنون إذن. هذه خيالات مجرد خيالات وستزول". 
هي خيالات قصص وتخيلات مبدعين كما أن مكان اللوحة غرفة تحوي شخصين إيطالي غاضب من رجل عربي قديم قد يكون دانتي. تشدها المرأة لتهرب خارج المربع الذي تحول إلى غابة الموت أين يحضر سيف ساموراي.
النوى هو الحدث  الأول، العري في غابة الموتى والجثث قد تكون غابة الحروب التي تتحلل داخلها هذه النوى لتنبت من جديد وتكتسي برداء بشري، فلا شيء يموت في الذاكرة ولا في الطبيعة حتى المخاوف في غرفة ضيقة تنفتح على الكوابيس برموزها لترمز للواقع وتعوضه بالصور وأشباح القصص والحكايات والشخصيات التي تغادر الورق ودهاليز الذاكرة تذكرنا بالخلق المتواصل عبر هذا التناص مع كائنات ركنت في دهاليز أو نتوءات ما ولكنها خلقت عوالمَ جديدة.