غزلان الليل.. حكايات شعبية أمازيغية

تنطوي الحكايات الأمازيغية على ثراء أدبي وشعبي يمكن الاستفادة منه في مختلف مجالات الإبداع الفني.

واحد وعشرون حكاية أمازيغية من كتاب "حكايات بربرية من المغرب" الصادر عام 1949، ضمن سلسلة منشورات معهد الدراسات المغربية العليا، عن مطبوعات لا روز بباريز، والذي جمع فيه الباحث الفرنسي إميل لاوست "1876-1952" أكثر من مئة حكاية، من الحكايات الشَّعبيّة الأمازيغية، ترجمها إلى الفرنسية، وعلَّق عليها، وحقَّقها، وقد استقاها من أفواه بعض الرواة، خلال جولاته ما بين 1913 و 1920 في عددٍ من مناطق المغرب. هذه الحكايات ترجمها وقدم لها إدريس الملياني وصدرت تحت عنوان "غزلان الليل.. حكايات أمازيغية" ضمن سلسلة كتاب الدوحة.
يرى الملياني في تقديمه للحكايات تجمع الآراء على ثراء الأدب الشعبي وتتعالى الدعوات إلى ضرورة الكشف عنه، وأهمية الاستفادة منه على نطاق واسع في مختلف مجالات الإبداع والفني، غير أن الجهود المبذولة ربما تبدو قليلة، ولا تكاد تلامس من ذلك الكنز الثمين والدفين إلا السطح، ولا يزال المنجز بعيد المنال. ومما يؤسف له أن ذلك الحقل البكر ملغوما ومحفوفا بشتى الحواجز والمحن والمنزلقات لقول الشاعر:
ومن لم يقدم رجله مطمئنة
فيثبتها في باطن الأرض يزلق
وقد يتحول أحيانا إلى ترف من تلك المواقف المستهينة بثمار شجرة الأدب الشعبي، التي تصدر خاصة عن المنتسبين إليها على شكل حروب صغيرة معلنة وخفية وكم يصدق عليهم فيها قول الشاعر الأمازيغي: ثبت أفكارك واحرص على ما تقوله.. فهذا الاستخفاف قد يجر عليك وبالا"، أو قول آخر: يتسرع فمك بالقول ليذرف المرارة.. حق لك يا فاقد الصواب".
ولا تدل تلك المواقف المستخفة إلا على عقوق يهجس بقتل الأب والقطيعة مع حليب الأم أو كما قال شاعر أمازيغي: "لا يهجو ولا يهجى إلا من أفقده الله لطيف الكلام".. ويضيف آخر "ليس الكلام شيئا مبتذلا ولا استهزاء.. فمن اقتحم غماره فليجد القول فيه". 
ويؤكد آخر "إن عزر كلامي فهذا فضل إلهي، ولم يعطه لي أحد، لا أستجديه من الآخرين، فعندي جواب كل تطاول.

ويضيف الملياني "من شأن تلك المواقف المتخاذلة والمتطاولة المناوئة والمتواطئة، أن تثبط كل عزيمة، وتحبط أي عمل في اقتفاء أثر ذلك الكنز المرصود المفقود والمنشود أو الارتواء من تلك البئر الشعبية المهجورة، التي ربما كان الشاعر الأمازيغي يعنيها بقوله: "جعلني الله نبعا بردني الرواة ولا أتضايق.. فكل دلو أرسل صوابي لا يعود فارغا". 
وبالتالي فكل من يحاول أن يطول فرعا من فروع شجرة الأدب الشعبي لاسيما الشفوي منه، كالحساني والعروبي والمزوغي، يجد نفسه مضطرا إلى امتلاك الخاتم السحري ليستحضر به الوثائق والمخطوطات أو طاقية الإخفاء ليخترق الخزائن أو بساط الريح ليطوف عليه عبر الهلال الخصيب الترامي الأطراف بين جبال الأطلس والريف وسهوب الجنوب والصحراء لجمع وتدوين النصوص من شفاه الباقي من الرواة على قيد الحياة. 
وما على القارئ بالعربية إلا أن يكتفي من الوابل بالطل ومن الغيث بأول القطر الذي تجود به عليه من حين لآخر النصوص المترجمة المبثوثة في جريدة أو المنشورة في كتاب. 
ومن ذلك على سبيل الذكر: "الشعر الغنائي الأمازيغي" للباحثين محمد المسعودي وبوشتي ذكي، اللذين يؤكدان تلك المحنة التي يكابدها الباحث في الذاكرة الجماعية الشفهية باعتبارها محنة مزدوجة: محنة للأدب في ذاته، إذ يهمش وينظر إليه على أنه في الدرجة الثالثةبعد الأدب المدون المكتوب، ومن ثم يشكك في قيمته الجمالية وبلاغة أسلوبه ومصداقية مضامينه، وهذا التهميش لا يقتصر على الأدب بل يمتد إلى مبدعيه ومستهلكيه، ومحنة للباحث في هذا الأدب إذا أن سمة الشفهية تقف حائطا منيعا تتكسر أمامه آمال وطموح العديد من الباحثين، فذوبان المبدع داخل الذات الجماعية للقبيلة أو المجتمع الناطق بنفس اللغة يجعل الوقوف على النص الأصلي أو ضبطه بغية مقاربته ضربا من المغامرة".

يكثر اللّغط الثقافي والجدل السياسي من قبيل السؤال العقيم هل الأمازيغية لهجة أم لغة

وما على القارئ بالعربية إلا أن يكتفي من الوابل بالطل ومن الغيث بأول القطر الذي تجود به عليه من حين لآخر النصوص المترجمة المبثوثة في جريدة أو المنشورة في كتاب. 
ومن ذلك على سبيل الذكر: "الشعر الغنائي الأمازيغي" للباحثين محمد المسعودي وبوشتي ذكي، اللذين يؤكدان تلك المحنة التي يكابدها الباحث في الذاكرة الجماعية الشفهية باعتبارها محنة مزدوجة: محنة للأدب في ذاته، إذ يهمش وينظر إليه على أنه في الدرجة الثالثةبعد الأدب المدون المكتوب، ومن ثم يشكك في قيمته الجمالية وبلاغة أسلوبه ومصداقية مضامينه، وهذا التهميش لا يقتصر على الأدب بل يمتد إلى مبدعيه ومستهلكيه، ومحنة للباحث في هذا الأدب إذا أن سمة الشفهية تقف حائطا منيعا تتكسر أمامه آمال وطموح العديد من الباحثين، فذوبان المبدع داخل الذات الجماعية للقبيلة أو المجتمع الناطق بنفس اللغة يجعل الوقوف على النص الأصلي أو ضبطه بغية مقاربته ضربا من المغامرة".
ويؤكد الملياني أن هناك الأَمرُّ من ذلك أن تُصاب الذاكرة الشَّعبيّة الجماعية كلّ حين بالفقد والضياع والنسيان إِنْ لم تكنْ أشرفت على اليتم والعقم، ولا أحد يرفع قلمه احتجاجاً مثلاً على غياب معهدٍ خاص بالدراسات الأمازيغية، كمعاهد البعثة الأجنبيّة المبثوثة في كلّ مكان، بينما يكثر اللّغط الثقافي والجدل السياسي حول الهامشي والثانوي من قضايا الأدب الشَّعبيّ العُروبي أو المُزوغي من قبيل السؤال العقيم: أهي لُغة أم لهجة؟ وهل تكتب النصوص المُترجَمة عنها بالحروف الأجنبيّة أو بالأبجديّة العربيّة؟ أمّ برموزها الأصليّة؟ ولا اتّفاق على الاضطلاع بالمهام الجسام، ولا إجماع إلّا على التغني بجمال الإبداع الشَّعبيّ في غياب الحبيب الذي تتطلَّع إليه العين الساخطة التي لا تُبدي منه إلّا المساوئ، وتغمض عنه العين الكليلة والعليلة. وعن أمثال ذلك يقول الشاعر الأمازيغي: "يا صاحب الألواح والتمائم الفارغة.. لم تسلني أحجيتك عن غياب الحبيب.. وهل هو حبيب؟" ويؤكد قوله آخر: "أيها الفقيه الذي يكتب تمائم الرضا.. أتكذب عليّ ها قد ملني الحبيب". 
ويتابع "فضلا عن ذلك تستمر لعبة جر الحبل بين الدعاة إلى وحدة وتنوع مكونات الشخصية والهوية أو الإنية على الأصح، وبين الغلاة من عداة التعدد الللغوي أو الاكتفاء في أفضل الأحوال بإلقاء الحبل على الغارب والتفرج على مشهد الاحتراب الناشب في وسط الأخوة الأعداء بعيدا على قرب من الصراع الكلامي الذاتي والمجاني العقيم، وقريبا على بعد من الحوار الديمقراطي الموضوعي والعقلاني السليم، بينما ذلك البنيان الثقافي يتعرض للتآكل مشرفا على الانهيار والسقوط في ذاكرة النسيان.
ولا نعدم من بيننا من يصادر حقوق الآخر في التشابه والاختلاف إلى درجة العقوق الذي يصل إلى أن يرفض بعض رواد العمل الجمعوي إدراج الشعر المغربي الزجلي أو الأمازيغي في برنامج ثقافي بينما يقبل الاستماع إلى قصيدة مكتوبة بإحدى اللغات الأجنبية. وإذا كانت الذاكرة يطغى عليها الطابع الشعري، فإنها بدأت في العقود الأخيرة تنتقل من الشفوي إلى المكتوب، ومن الشعري إلى الردي، إلى جانب أنواع أخرى من الإبداع الفني، كالمسرح والسينما.

مقتطف من حكاية غزلان الليل

غداة اعتلائه العرش، لم يتمكن ملك أحد البلاد من النوم، لشدة اضطرابه. قال في نفسه: أمر غريب! أوّل أرقه كهاجس بالاضطرابات التي كانت تحدث في عاصمة مملكته. 
وفجأة نهض، ارتدى ملابس المدينة وخرج ليتجول، وحينئذ سمع صفيرا، اتجه نحو مصدر الصوت فألفى ثلاثة رجال جالسين. وبعد أن حيّاهم سألهم:
ـ ماذا تفعلون هنا؟
ـ إننا ننتظر!
ـ ومن أنتم؟
ـنحن! نحن غزلان الليل! وأنت؟
ـ أنا أيضا غزال ليل؟ وسأل أحدهم:
ـأي عمل تجيد؟
ـأنا، حينما ينبح كلب، أفهم ما يقول!
وقال للثاني:
ـ وأنت؟
ـ أنا، عندما أشم أمام جدار، أعرف ما يدور خلفه!
ثم سأل الثالث فقال:
ـ أنا أثقب الجدار وأسد الثقب دون أن أترك أي أثر!
وحين سألوه هو قال:
ـ أنا أجفف الريق في فم البشر!
- أنت أيضا، لك مهنة جيدة!
ـ وبعد ذلك سألهم الملك:إلى أين تريدون أن نذهب؟
فقالوا له:
ـ هيا بنا ننهب خزائن الملك!
وقفوا واتجهوا نحو القصر. وخلال الطريق، التقوا بكلب ينبح في أعقابهم. فسأل أحدهم:
ـ أين ذلك الذي يفهم لغة الكلاب؟
ـ ها أنا ذا!
ـ ماذا قال؟
ـ إنه يحذرنا من وجود الملك بين صفوفنا!
ـ اسكت، ما هذا الكلام الفارغ! الملك ينام في قصره.
وحين اقتربوا من القصر، قال أحدهم:
ـ أين ذاك الذي يشم أمام جدار، ويعرف ما يجري خلفه؟
ـ ها أنا ذا!.. تقدّم وشمْ
ـ ماذا وراء الجدار؟
إنها غرفة الخادمات!
وتابعوا سيرهم بمحاذاته الجدار.
ـ ... وهنا ماذا يوجد؟
ـ هنا، المطبخ!
وساروا بعد ذلك.
ـ ... وهنا؟
ـ هنا، غرفة الملك!
ـ وهل يوجد الملك بداخلها؟
ـ كلا، لا يوجد فيها. لعله ذهب للصلاة.
ثم واصلوا طوافهم.
ـ .. وهنا؟
ـ هنا، مكان الخزينة؟
وتوجهوا إلى ثقاب الأسوار قائلين:
ـ اقترب وقم بمهمتك!
وشرع الرجل في حفر فجوة في الجدار، ولما انتهى قالوا للملك:
ـ ادخل!
فدخل الملك شخصيا إلى الخزينة، وحمل منها صندوقا.
ـ اذهب واحمل صناديق أخرى!
فحمل صندوقا ثانيا، وثالثا، فرابعا. أخذ كل واحد صندوقا، بمن فيهم الملك. ثم قالوا لثقاب الأسوار:
ـ أعد الجدار كما كان!
فتمّ ذلك في الحين.
حمل كل واحد صندوقه، ولأن الصناديق كانت ثقيلة، فقد توقفوا لحظة ليستريحوا، قال للملك:
ـ الآن خذ نصيبك، وانصرف!
ـ لكني لم أتمكن يوما من الحصول على مثقال واحد من الذهب، يكون لي وحدي.
ـ ماذا تقصد؟
ـ أخاف أن آخذ كل هذا الذهب، غدا، عندما يطلع النهار، سأذهب لشراء الملابس والحرير، لاشك أن الناس سيتساءلون من أين أتتني هذه النقود، إذ سيقولون لم يكن يملك شروى نقير!
ـماذا تقصد من وراء هذا الكلام؟
ـ في الواقع، أريد أن تحملوا صندوقي معكم، وعندما أحتاج إلى بعض النقود، سآتي لأطلبها منكم.
ـ اذهب مطمئن البال، وتعال إلينا كلما رغبت في ذلك.
استأذنهم بالانصراف، ولكنه لم يلبث أن عاد ليقول لهم:
ـ لكني لا أعرفكم. لمن سأتوجه غدا، لأجدكم؟
ـ كيف لا تعرف من نحن!
ـ أنا هو المؤذن. قال الأول.
ـ وأنا الإمام. قال الثاني.
ـ وأنا هو الفقيه. قال الأخير.
ـ دمتم في حظ الله ورعايته!
وعاد إلى غرفته في القصر.
نام هناك، وفي الصباح، مضى إلى المشور، حيث تجري الاستقبالات. وعند انتهاء الجلسة، انحنى على الوزير وقال له همسا:
ـ في الظهر، ستذهب إلى المسجد، وستجلس في الصف الأول، للمصلين. وبعد الصلاة مباشرة، ستطلب بصوت خافت، من المؤذن والإمام والفقيه أن يحضروا لزيارتي!
ومرت الأمور كذلك. قال المؤذن باي القلق:
ـ ماذا يريد منا الملك؟
ـ فأجاب الإمام مطمئنا إياه:
ـ من الواجب أن يتحدث معنا، إنه الملك الجديد. لاشك أنه يحرص على معرفة مهامنا في المسجد!
ـ رافقهم الوزير إلى القصر وأدخلهم إلى حجرة الانتظار، حيث قضوا الليلة. وفي الغد قال الملك للوزير:
ـ أين هم؟
ـ إنهم في الحجرة المجاورة، بحيث يستطيعون سماعك منها!
ـ أحضر لي الأول!
أتى الوزير بأحدهم فقال له الملك:
ـ اجلس.. ثم سأله:
ـ ما هي حرفتك؟
ـ أنا مؤذن المسجد، يا مولاي، أقوم وسط الليل للتسبيح باسم الله وتنبيه المسلمين إلى وقت الصلاة.
ـ ليس هذا هو ما أقصد!
ـماذا إذن؟ يا مولاي! 
ـ كيف تقضي ساعات الليل!
وعندما سمع المؤذن هذا الكلام من الملك جف ريقه.
اعترف قائلا:
ـحين ينبح الكلب، يا مولاي، أفهم ما يقول!
ـ حسنا هذاما كنت أرغب في معرفته. واستدار نحو الوزير، وأضاف:
ـ احبسه في غرفة أخرى، وأحضر لي الثاني!
ـ وأنت ماهي مهنتك؟
ـ أنا إمام المسجد، يا مولاي، أؤم صلاة المسلمين، ولا أغفل عن ذلك أبدا.
ـ ليس الأمر متعلقا بذلك، بل بانشغالاتك في الليل
ـ إنني يا مولاي أستطيع حين أشم أمام جدار، وأعرف ما يجري وراءه!
ـ حسنا.. ذلك ما كنت أريد أن أعرف.
وألحقه الوزير بزميله المؤذن، وجاء بالشريك الثالث، فسأله الملك حين مثل أمامه:
ـ وأنت، ماذا تعمل؟
ـ إنني يا مولاي، أدرس الكتب المقدسة، وأشرح للمؤمنين كلام الله ورسوله!
ـ لم أسألك عن هذا بل عم تقوم به أثناء الليل؟
ـ إنني يا مولاي أثقب الجدار ثم أجعله كما كان!
ـ حسنا! هذا ما كنت أسعى إلى معرفته!
ولمـا انتهى الاستنطاق، أمر الملك الوزير بإحضار حارس الخزينة. وذهبوا جميعا إلى مكان السرقة. قال الملك:
ـ افتح الباب
دخل الملك وأحصى صناديق الذهب، ولما كان ينقص منها أربعة، سأل الحارس:
ـ أين هي؟
ـ علمي علمك يا مولاي، إنني لم أعهد بمفاتيحي لأيّ كان!
تحدث الملك مع وزيره وأفراد حاشيته.
ـ لا أحد منكم يستطيع أن يقول كيف تمكن اللصوص من الدخول إلى هنا؟
تفحصوا الجدار زوايا وخبايا ولم يكتشف أحد أثرا يدل على اختراقه.
فقالوا:
ـ لم يلمس أحد هذا الجدار، واسترسل الملك قائلا:
ـ فكروا جيدا، غدا أحدثكم عن هذا الأمر، لا تعارضوني، ما دمتم تعترفون بجهلكم، سأستطيع أن أقول لكم، أنا، كيف نهبت الخزينة.
 

ويختم الملياني تقديمه قائلا "طوبي أولا وأخيرا لكل شاعر أو زجال أو "أنظام" أو "لمغني" أو "أنشاد" أو "بولغا" أو "أوّال" أو "أمدياز" يناهض أي عجز فكري ويحافظ على كل كنز شعري باللسان العربي والعروبي والحساني والأمازيغي ومن أي الجهات واللغات الممكنة والمستحيلة".