"فجر النهايات" نزعة إنسانية وعالم مليء بالرؤى والأحلام 

الشاعر أوس حسن وجدته محاصراً نفسياً بانثيالات وأحلام وآمال للكثير من مواضيع الحياة في ذاكرته.
الشعر لا يغدو مخلوقاً بصفات محددة تكسبه ملامحه الخاصة إلا بعد أن يدخل فيه الفعل والحدث تأثيراً
في صور أوس حسن الشعرية صدق ووضوح مبتعدا عن العبارات الفضفاضة

بقلم: أحمد البياتي
"فجر النهايات" مجموعة شعرية للشاعر أوس حسن صدرت عن دار يوتيبيا للطباعة والنشر ببغداد. وتقع في 104 صفحات القطع المتوسط واحتوت على نصوص نثرية.
شعرت بعطاء هذا الشاعر عبرَ صوره الشعرية المتجددة، إذ وجدته محاصراً نفسياً بانثيالات وأحلام وآمال للكثير من مواضيع الحياة في ذاكرته، التي جعلها محور الدلالة في التجسيد الحي للذكريات من خلال إصراره على توليد الصور المتعددة التعابير وفق رؤياه الممتزجة بنواياه. 
في قصيدة "صوت" يقول:
قي صدري غيومٌ تئن .. ونايّ مثقلٌ بالذكرى
في صدري 
في صدري صوت لقوافل التاريخ
صوت لعربات الملوك
صوت لأناشيد العبيد
وصوت لصرخات السبايا
في صدري صوت لمنفى بين دمعتين
أو سفر بين زمنين
صوت للمرايا
وصوت للحكايا
في صدري صوت لأغنية بين نجمتين
صوت للموتى العائدين
وصوت للحنين
في صدري صوت للعشق
صوت للثورة
صوت للشك
وصوت لليقين

الإبداع عموماً والشعر خاصة، يبدأ لذّة في العناء وسلوى، ثم ينتهي تورطاً في الخلق ومسؤولية في البحث والتقصي

نلتمس في صوره الشعرية الصدق والوضوح مبتعدا عن العبارات الفضفاضة، متقصياً ومتحرياً حتى تتبين له الصورة الشعرية الشاخصة في رؤياه النافذة عبر أشكال وأحوال مختلفة، كما أنه امتلك إحساسا كاملاً في التعبير والأسلوب، فأعطانا نحن القراء والمتذوقين للشعر ما نريد، أما البوح عنده فهو وحدة قائمة بذاتها من حيث التنظيم واتصال الأجزاء، عبر تساؤلاته التي يحاول فيها الحصول على إجابة لآرائه وانثيالاته الملحة، والتي يعتقد أنها ضرورية لتثبيت منهاجه الشعري.
في قصيدة "راقص على ترانيم الأبدية" يقول:
عندما مشيتُ فوقَ الجمرِ والنار خلفت ورائي رماداً يحرق الريح لكنهم لم يروا من أثري إلا سرابَ ماءٍ أو هواء يعطر نسمة الأحلام في هذا العالم الفسيح، وعندما صرخت بصوتي كهدير الرعد وجنون الإعصار ... لم يسمعوا إلا صدى خائفاً ونداءً خفيا يزين بهجة الروح في متاهات النائمين ..
 فما كنتُ إلا ضيفاً عابراً في ربيع المساءات الذهبية  
أو سائحاً جوالاً في نواحي الحياة
 من سمات اللغة الشعرية المؤثرة فرادتها كونها لغة الشاعر التي تجسد رؤياه وحلمه وذهوله. إن شكل  النص الشعري أو بناءه إذا فصل عن شحنته المعنوية والنفسية لا يعدو كونه ضجة مجردة.
في قصيدة "فجر النهايات" التي حملت عنوان المجموعة يقول:
يا صديقتي أرهقني ليلُ البائسين والفقراء
متعبُ أنا بدمي الذي حملته من فجر النهايات
من منفى الإغريق الأول
إلى منفى العرب الأخير
ووزعته على أصقاع الأرض
خبزاً ونبيذاً .. وسلاما
وزعته على صبية صغار
يركضون في الحيّ
يلهثون وراء قطعة حلوى
ودمية بالية
وفي عيونهم تبكي آلهة الربيع
وتنطفىء شمس النهار
وعلى جارية ثكلى ينام
القمر في جفنها كالحمل الوديع
وهي تطرز شال الليل بنجمة قادمة
من بلاد الموت ورعشة الصقيع
والصقيع إله من ماء الذكريات
والذكريات قلق البحر ودمع الغيوم الشاردة
هكذا يولد السؤال الأول على عتبة الحياة
الشعر لا يغدو مخلوقاً بصفات محددة تكسبه ملامحه الخاصة إلا بعد أن يدخل فيه الفعل والحدث تأثيراً، لأن الرؤية الراسخة تلقي بظلالها العميقة على مهارات الشاعر الكتابية وتنعكس على أشكاله التعبيرية، فلا يمكن للشاعر أن يبتعد عن التأمل والغرض الفكري في نصه الشعري، فما وراء الجملة الشعرية دائما حدث. 

الريح موطن الغريب .. ودرب التائه إلى السؤال
أنا التائه في الغابة الكثيفة المظلمة

في قصيدة "الرصيف العاري" يقول:
على الرصيف العاري ..
جرحٌ في الذاكرة
أطفالٌ متسولون ..
ظلالٌ تضيءُ عتمة الفقراء
غربةٌ تتشظى
وموتٌ دائم.
على الرصيف العاري ..
ضبابٌ كثيف،
أحلامٌ هاربة
قديسون ومجانين من عهد روما
وزمنٌ طاعنٌ في النسيان ....
على الرصيف العاري
أمٌ تودع طفلها عند نهاية الدرب
عاشقان اثنان يتبادلان الورد والمنفى
غريبان في الظلال 
يتبادلان الأرض والسماء
وحديقة تقطف أحزانها من الريح
نستطيع القول إن الشعر مرآة الحياة، وبما أن قصيدة النثر تكمن شعريتها في اللاغرضية، لذا فإن التراكم أو التلاحق في تعدد الأصوات يخلق توتراً متدرجاً في المنولوج الداخلي للنص ويوحد الإيقاع المنفلت من الرتابة السكونية لطاقة التعبير اللغوي ضمن مفردات تحرك البؤرة النصيّة.
في قصيدة "ظلٌ مفقود" يقول:
عندما يجرح الظلُ نفسه .. تسيل منه عصارةٌ من دم الليل ..
الليل المعتق بفجر أغانينا الأولى
وعندما تجرح الدماء نفسها .. تسيل منها أقمار سوداء .. ظلال خرساء ..
ظلال العالم المسكون بالموت والإنطفاء الأخير.
هكذا كان يكتب مرثيته كُلَّ يوم .. بكامل يقينه وبياضه
يمتطي جناح طائره النحاسي ويبحث عن صدى ظله
في ملكوت النور ....
ظله الضائع منذ أزمنة .. وأزمنة بعيدة ....
نستبطن هنا عمق الشجو والهم بصوره العديدة في الرؤيا والإستلهام والنفاذ والإستحضار، ففي فلسفته الشعرية توجد ذاتية وعمق أعطاه التميز والقراءة الرصينة في تكوين النمط الشعري للغته الشعرية العالية التي جسدها، وكانت أغلب قصائده معبرّة عن واقع حال الشاعر وما كان يتصارع في ذاته من مشاعر وأحاسيس، فهو يريد أن يوصل ما في نفسه إلى الآخرين فله رسالته الشعرية المؤمن بها.
في قصيدة "ناقوس الغابة الحزين" يقول:
تجتاحني هذه الموسيقى
القادمة من زمن بعيد
تخترق روحي
وتخطفني إلى هناك
هناك ....
حيث الليل والنهر يصليان
هناك ...
حيث تيبست
قوارب البحارة الغرباء
وصارت رماداً
تذروه ريح الأبدية
أنا التائه في الغابة الكثيفة المظلمة
تائهاً أبحث عن النور
بين الأشجار المتشابكة
تحاصرني الأصوات
من كل الجهات
الرعود .. الأمطار
وأنين السحب الرمادية
الأدوات الشعرية عند الشاعر أوس كانت تتكاثف وتتساند ضمن نسيج نصي متلاحم من أجل التعبير عن التجربة الوجودية والإنسانية التي تشكلها الذات الشاعرة، بوصفها فعلاً إبداعياً خلاقاً في فضاء رحب وفسيح، كما أن صياغته للقصائد كانت بمهارة عالية إذ أنه حدد مفاهيم عدة مما زادها قوة ووضوحا وأعطاها مساحة واسعة للتعبير والتصوير، إذ كان قادراً أن يسمع ما يرى من مآسي الحياة واضطرابها في زمن مغلق وهو لا يملك غير قدرته الإنسانية ليوآلف بين وجوده وصوره الشعرية.
في قصيدة "مري بذاكرتي" يقول:
مُرّي بذاكرتي حلماً حزيناً
مُرّي بذاكرتي وأطرقي أبوابَ الطفولة
مُرّي بذاكرة النسيان ... مُرّي ...
كفراشةٍ خجولةْ
في خريف الحقولْ
كموجةٍ رعناء في بحر السكينةْ
مُرّي بذاكرتي ... مُرّي ...
عبثاً وجنوناً وحطمي أسوار الذهولْ!!
رؤيته المتجددة دائماً تجعل من عمله الشعري وحدات متفاعلة داخل سياق رؤيوي متجانس شديد الفاعلية وهذا ماجسده في هذه المجموعة، شاعرٌ أثبت باقتدار أنه متمسك بحدوده الإنسانية في صياغاته الشعرية.
 إن الإبداع عموماً والشعر خاصة، يبدأ لذّة في العناء وسلوى، ثم ينتهي تورطاً في الخلق ومسؤولية في البحث والتقصي، وإن بعض مظاهر القصيدة في الجسد المبعثر ماهو إلا تعبير عن هذا التورط ومنحى من مناحي عمل هذه المسؤولية، وعليه لا يمكن أن ننظر الى عملية الإبداع بانفصالها عن الشاعر، بمعنى أنها منغلقة على ذاتها كأنها بلا صانع حقيقي، كما أننا نجد في كل مفردة (غاية ووسيلة معاً)، هي غاية لأنها تود أن تعتمد (معنىً) وهي وسيلة بما يحدث فيها من (تلّبس).
في قصيدة "سمفونية الرحيل" يقول:
  ... وغمغمة الريح التي تحمل صدى عاشقةٍ باكية
نثرت دموعها ذات يومٍ
على وسادة الحلم
وهي تطرق نوافذ المدن الليلية 
وتعانق هدأة الموج في قوارب المغتربين
والريح موطن الغريب .. ودرب التائه إلى السؤال
التائه المثقل بمرايا المكان
وهي تذوب في شهقة القلب
وردة .. وردة
 لقد اكتسب الشاعر أوس حسن إمكانات فنية استطاع من خلالها أن يعرض تجارب شعورية صادقة يحياها القارىء، فقد عرضها من خلال أبسط وأدق جزئياتها، واهتم بالأعماق فشرحها وناقشها من خلال غطسه إلى أعماق المتحرك النامي، عرض موضوعاته بأسلوب فيه قدرة كبيرة على العطاء والإيحاء بجو مشحون بالأفكار والرؤى والأحلام والمشاعر والأحداث، فلقد أجادَ بصياغته للقصائد وبمهارة عالية أنه جدّد مفاهيم عدة مما زادها قوة ووضوحا وأعطاها مساحة واسعة للتعبير.