فراغ لبنان القاتل

التركيبة اللبنانية الفريدة تنتج وضعا فريدا. كل شيء على وشك الانهيار.

بات لبنان من بين الدول القليلة التي تكافح للبقاء، وسط فراغ مؤسساتي لا مثيل له في تاريخه المعاصر، فراغ رئاسي وحكومي عبر تصريف الاعمال وسلطة تشريعية محدودة الحراك وقضاء تتجاذبه القوى السياسية الحاكمة، عدا عن فراغ مالي في المصرف المركزي الذي يسير بالإنابة، وسط انتظار الفراغ في قيادة القوى العسكرية والأمنية خلال اشهر قليلة، ما يؤشر الى خواء دستوري وسياسي وعسكري واداري يؤشر الى انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة.

وبطبيعة الحال، تترك هذه الفراغات المتتالية والتي تبدو وكأنها منظمة، أثارا وتداعيات مميتة في مختلف جوانب الحياة اليومية للبنانيين. ففي ظل غياب رأس السلطة في الدولة، لا مؤسسات قابلة وقادرة على الاستمرار، حيث الاعمال الحكومية او ما تبقى منها يدار بصفة تصريف الاعمال وبحدها الأدنى، وسط تجاذب القوى السياسية حتى على جدول الاعمال المقترح، الذي غالبا ما يفرغ من مضمونه الأساسي، ليقتصر التصريف على جوانب تبدو بديهية ولا تحتاج في الأساس كثير من التدابير والاتفاقات المسبقة. فيما العمل التشريعي الذي يكاد ان يكون معدوما ومتصلا في احسن الأحوال بقضايا متفق عليها سلفا وبدقة تراعي مواقف ومصالح الكتل السياسية غير المتجانسة أساسا. في حين تبدو السلطة القضائية في أسوأ صورها، حيث لا محاكم فاعلة ولا قرارات في ظل اعتكاف غير معلن في كثير من المواقع القضائية. باختصار ثمة موت سريري في المؤسسات الدستورية، حيث لا تعاون ولا تواصل في حده الأدنى، وتقتصر الأمور على نمط سلوكي سياسي هجين لا مثيل له في النظم السياسية المعاصرة.

وفي ظل هذا الواقع السياسي الدستوري المزري، ثمة جانب اشد خطورة، وهو انفلات الوضع الأمني في مختلف المناطق اللبنانية من العاصمة الى الأطراف، حيث مظاهر السلب والقتل والاجرام منتشر بصور غير مسبوقة وبأساليب إجرامية مبتكرة وجديدة في المجتمع اللبناني. وهو ما يؤشر إلى انماط وسلوكيات اجرامية لم تظهر سابقا في المجتمع اللبناني، وهي نتاج سلوكيات وعادات وافدة مع النزوح واللجوء، وما عزز تلك المظاهر القاسية عمليا الوضع الاقتصادي المتدهور الدي زاد من منسوب الاجرام المجتمعي، وبات مشكلة كبرى بحد ذاتها تستلزم وسائل خاصة لمعالجتها سريعا، سيما وان هذا الوضع ترك أثارا على قطاعات أخرى كالتعليم ومستوى الفقر ومجمل العلاقات الاسرية والمجتمعية.

في ظل هذا الخواء القاتل من الطبيعي ان تطرح أسئلة مخيفة متصلة بطبيعة التركيبة الاجتماعية اللبنانية ومستقبلها في ظل كيان سياسي فقد دوره وحتى طبيعة وجوده في ظل تغير ديموغرافي هدد الكيان والتركيبة التي بنيت في الأساس على اطر غير صلبة، ما يطرح تساؤلات من نوع أحر حول جدوى وجود الكيان في محيطه العربي والإقليمي والدولي.

في أي حال من الأحوال، من الصعب النظر الى هذه الفراغات المتتالية في بنية ما سمي بالتركيبة اللبنانية الفريدة، بمعزل عن ظروفه الموضوعية لجهة المتغيرات العربية والإقليمية المحيطة ابان العقدين المنصرمين. وما يزيد في الطين بلة الظروف الضاغطة نفسها، وغياب الاهتمام بظروفه كخيار وأولوية بين الدول الفاعلة او المهتمة تاريخيا، بل ان التدقيق في سياسات تلك الدول تشعر ان ثمة تخل واضح ما زاد الأمور تعقيدا، والأنكى في كل تلك المظاهر والظروف، كيفية تعاطي الأطراف اللبنانية مع واقعهم المزري ودوام تعليق الامال على الظروف الخارجية لإيجاد الحلول ولو بعد حين.

من الواضح ان تلك الفراغات وصلت الى مستويات مدمرة وقاتلة، والانكى من ذلك، ان طرق إعادة هيكلة المؤسسات الدستورية والمرافق العامة تبدو مغلقة، وغبر متاحة، وبالتالي ثمة غيوم سوداء وغربان تجيد النعيق على وضع لبنان الكارثي للأسف.