فرصة للسيسي لتتبّع رؤية السادات وشجاعته
من الصعب المبالغة في وصف شجاعة الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما زار إسرائيل حاملاً غصن زيتون في نوفمبر/تشرين الثاني 1977. فقبل عقد من الزمان فقط، رفض أول رئيس مصري، جمال عبد الناصر، وجود إسرائيل رفضًا قاطعًا، قائلاً: “لن نقبل أي تعايش مع إسرائيل”. إن إنهاء حرب يوم الغفران عام 1973 باستعادة سيناء إلى مصر دون تقديم تنازلات تُذكر لإسرائيل، مكّن السادات من “إعلان النصر”، مما عزز مكانته في أعين الجمهوروسمح له لاحقًا بالسفر إلى إسرائيل “منتصرًا”. وقد استُقبل في إسرائيل كرجل دولة عظيم يحظى بحرس شرف، مما ترك بصمة لا تُمحى في أذهان الإسرائيليين والمصريين على حد سواء.
إن قيادة السادات الثاقبة، إلى جانب رئيس الوزراء مناحيم بيغن، وتصميم الرئيس كارتر على اغتنام الفرصة والتوسط بينهما مهدت الطريق لمعاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر الموقعة في 26 مارس/آذار 1979. وقد صمدت المعاهدة على مدى السنوات الـ 46 الماضية لأنها منذ بدايتها خدمت المصالح الجيوستراتيجية طويلة وقصيرة الأجل وكذلك المنافع الإقتصادية والأمنية المتبادلة لكلا البلدين.
وعلى الرغم من تبدل الحكومات المصرية والإسرائيلية عدة مرات على مدار السنوات الست والأربعين الماضية، إلا أن كلا الجانبين لا يزال ملتزمًا تمامًا ببنود المعاهدة، مُدركًا أهميتها الجيوستراتيجية الحاسمة لبلديهما. وهكذا صمدت المعاهدة أمام اختبار الزمن رغم عدم الإستقرار الإقليمي واستمرار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني العنيف.
تجاوزت المعاهدة آثارها وفوائدها الهائلة لإسرائيل ومصر. لقد غيّرت جذريًا الأبعاد النفسية والسياسية للصراع العربي الإسرائيلي حيث بدأت تجد صدىً بين الدول العربية بعد ما يقرب من عقد من توبيخ مصر ومعاقبتها لكسرها كتلة العداء العربية ضد إسرائيل.
منع حرب عربية – إسرائيلية
أصبح من الواضح مع توقيع المعاهدة أن السلام الإسرائيلي – المصري سيمنع أي احتمال لحرب عربية -إسرائيلية شاملة. لقد كانت مصر ولا تزال أقوى دولة عربية عسكريًا، وبدونها لن تتجرأ الدول العربية خوض حرب ضد إسرائيل ستنتهي حتمًا بهزيمة ساحقة.
لولا معاهدة السلام الإسرائيلية – المصرية لكان من غير المتصوّر إبرام أيٍّ من هذه الاتفاقيات. في عام 1993 وضعت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إطارًا للسلام والإعتراف المتبادل. وفي عام 1994 وقّعت إسرائيل والأردن معاهدة سلام. وفي عام 2002 طرحت المملكة العربية السعودية مبادرة السلام العربية التي اعتمدها مجلس الدول العربية والتي اعترفت بحكم الواقع بحق إسرائيل في الوجود، وإن كان مشروطًا بإقامة دولة فلسطينية. وفي أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021 تمّ توقيع اتفاقيات إبراهيم بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان كلٍّ على حدة،. أي أن معاهدة السلام الإسرائيلية – المصرية غيّرت مسار الصراع العربي -الإسرائيلي من حيث أنها عدّلت نفسيًا موقف الدول العربية تجاه وجود إسرائيل الذي لا رجعة فيه وفتحت الباب أمام حلّ سياسي، وإن كان بطيئًا نظرًا لاستمرار الصراع مع الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية قد اكتسبت مكانة بارزة في الشؤون العربية أكثر من مصر على مدى العقد الماضي، إلّا أن مصر لا تزال محوريّة في البحث عن السلام الإسرائيلي – الفلسطيني بغض النظر عن معالمه النهائية، وخاصة الآن في أعقاب الحرب بين إسرائيل وحماس. فبدون مشاركة مصر المباشرة وموافقتها على مستقبل غزة في سياق السلام الإسرائيلي – الفلسطيني، لا يمكن التوصل إلى أي حل.ّ
لطالما شاركت مصر من الناحية التقليدية بشكل مباشر وغير مباشر في غزة. فقد كانت مسيطرة على قطاع غزة حتى احتلت إسرائيل القطاع خلال حرب الأيام الستة عام 1967 وشاركت مرارًا وتكرارًا في التوسّط في النزاعات المتكررة بين إسرائيل وحماس. ومع ذلك، لم تتورّط مصر في أي وقت من الأوقات بشكل مباشر في الصراع بين إسرائيل وحماس أكثر مما كانت عليه منذ هجوم حماس في أكتوبر 2023 وحرب الإنتقام الإسرائيلية. وبغض النظر عن النتيجة النهائية لهذا الصراع، ستتأثر مصر بشكل مباشر، وبالتالي، فإن لها كل ّالحق في لعب دور مباشر في تشكيل الحلّ النهائي.
والسؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان الرئيس المصري السيسي سيُظهر نفس شجاعة السادات ليأخذ زمام المبادرة ويستغل الذكرى السادسة والأربعين كنقطة تحول، بدءًا بالإصرار على وضع إطار عمل لمستقبل غزة في سياق إنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس، وفي نهاية المطاف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
أقرت القمّة العربية في القاهرة التي عُقدت في 4 مارس/آذار والتي ضمّت مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة خطة مصر الشاملة لإعادة إعمار غزة والتي تهدف إلى إعادة بناء القطاع على مدى خمس سنوات بتكلفة 53 مليار دولار دون تهجير سكانه. تستثني الخطة حماس من الحكم المستقبلي وتقترح بدلاً من ذلك لجنة فلسطينية تكنوقراطية تحت إشراف السلطة الفلسطينية. وتؤكد الخطة على الحاجة إلى الأمن وتدريب القوات الفلسطينية والدعم الدولي، بما في ذلك قوات حفظ سلام محتملة تابعة للأمم المتحدة. كما رفضت الخطة رفضًا قاطعًا فكرة ترامب الغريبة بتهجير الفلسطينيين وتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
ونظراً لتأثّر إسرائيل بأي خطط تتعلق بمستقبل غزة، ينبغي على الرئيس السيسي البدء في إجراء مناقشات ثنائية مع إسرائيل لوضع خطط خروج لانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة على عدة مراحل. مصر في وضع يسمح لها بمنع إسرائيل من التفكير في طرد الفلسطينيين من غزة، مهددةً بأن ذلك سيُعرّض معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية للخطر. وعقب القمة العربية، قال الرئيس السيسي: “لقد حان الوقت لتبني مسار سياسي جاد وفعّال يُفضي إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. لديّ ثقة في قدرة الرئيس ترامب على تحقيق ذلك”.
ومع أن كلاً من إسرائيل ومصر ترغبان في رؤية حماس يُقضي على وجودها، إلا أنهما تدركان أيضاً أن ذلك سيكون بعيداً عن متناولهما، إذ ستبقى حماس لاعباً مؤثراً لا يمكن الإستغناء عنه. ولم تستبعد القمة دوراً لحماس في تنفيذ المبادرة المصرية.
في الواقع، بالنظر إلى مدى الهزيمة التي مُنيت بها حماس بعد 17 شهرًا من الحرب التي دمّرت جزءًا كبيرًا من قواتها المسلحة وحولت ثلثي غزة إلى خراب، بدأت حماس في الأسابيع الأخيرة بإرسال إشارات متضاربة حول مستقبلها في غزة. وقد أبدت استعدادها لمناقشة نزع السلاح كهدف نهائي لعملية السلام. وصرح حسام بدران، المسؤول في حماس، بأن الحركة مستعدة للتخلي عن الحكم، قائلاً: “شرطنا الوحيد هو أن يكون هذا شأنًا فلسطينيًا داخليًا… ما دام هناك إجماع وطني، فلن تشارك حماس في الحكم”.
لا تزال معاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر حجر الأساس لسلام عربي – إسرائيلي شامل. ولا يزال الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو العقبة الرئيسية أمام تحقيق ذلك. ولا أحد في وضع أفضل من الرئيس السيسي الذي يمكنه استخدام دور مصر الذي لا غنى عنه لدفع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قدمًا، بدءًا من وضع نهاية للحرب في غزة.
ليس هناك وقت أفضل من الآن للتحرك بقوّة نحو هذا الهدف بينما تحتفل مصر وإسرائيل بالذكرى السادسة والأربعين لاتفاقية السلام بينهما. فهل يستطيع السيسي أن يرتقي إلى مستوى رؤية السادات وشجاعته؟