فليحذر المنسلخون.. بداعي مخالفة التنظيمات الإسلامية!

في أيديولوجيا التنظيمات كثير مما يجب الانسلاخ منه: السرية والانغلاق والقراءة التنظيمية للنصوص وشمولية التنظيم ليصبح مجتمعًا بديلا داخل المجتمع أو دولة داخل الدولة التأسيس الفكري للانعزال النفسي تغيير في ترتيب الأولويات الاستغراق في التاريخ دون مواكبة الواقع فكريًا وعدم تقديم نظريات عصرية في السياسة والحُكم.

بقلم: علاء سعد حميده

بين الدين والأيديولوجيا شعرة رقيقة، لكنها حادة جدًا وفاصلة فعلا. لو توقَّفنا عند مفهوم الأيديولوجيا باعتبارها الموجِّه القيمي المهيمن على أفكار الفرد، والمحرِّك لممارساته الحياتية اليومية منها وطويلة الأمد كذلك، وباعتبارها الحاكمة للمعايير الأخلاقية المسيطرة عليه، بهذا المفهوم فإنَّ الدين يحوي أيديولوجيا ما، خصوصاً إذا كان هذا الدين يهتم بعلاقة الإنسان بالحياة من حيث عمارة الكون والإصلاح في الأرض والإحسان إلى الخلائق وإدارة الموارد البيئية.

 أيديولوجيا الدين قد تكون أصيلة تعتمد على النص المقدَّس قطعي الثبوت والدلالة وتطبيق الرسل والأنبياء؛ وقد تكون مركَّبة حيث يضيف البشر على مر العصور اجتهاداتهم وأفهامهم وتصوراتهم لمقاصد الدين وإدراك تطور الحياة برحابتها على الأرض تطورًا مضطردًا مع تقدَّم الزمان ومتناسبًا مع ثقافة المكان.

هذه الأيديولوجيا المركَّبة، التي خلطت بين أصول الدين واجتهادات  البشر، مسؤولة عن السجال الحاد والطويل بين الرفض والقبول، فمن الناس من يأخذ اجتهادات بشرية في فهم الدين كمسلَّمات عقائدية باعتبارها نصوصًا مقدَّسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ومنهم من يُنزل الثقافة البيئية أو الأعراف الاجتماعية المحلية منزلة ثوابت الدين، ومنهم من يرفض التزام ثقافات وأعراف مجتمعات نائية عنه فكرًا وحضارةً وإحلالها محل ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه، فيجد نفسه مضطرًا إلى رفض الأيديولوجيا الدينية كاملة دون أن يميز بين ما هو أصيل وبين ما هو مركَّب أو مُحمَّل عليها من أفهام البشر وثقافاتهم البيئية المختلفة!

تحدث تحدث في أعقاب النكسات الكبرى للمشاريع الأيديولوجية ذائعة الصيت؛ مراجعات جادة وأحيانًا حادة لبعض فصائل المؤمنين بتلك الأيديولوجيات، يحدث ذلك دائمًا في الشرق والغرب عبر التاريخ، حيث لا يُعقل أن يسقط التطبيق سقوطًا مريعًا مريرًا ثم يتمسك الأتباع بنفس منظومة النسق الفكري الذي نتج عنه التطبيق المنهار، ولو كانت بعض أسباب انهيارها الانحراف الجزئي أو الكلي عن النظرية الحاكمة! وهذا عدل لأنَّ من دلائل نجاح وحيوية وفاعلية النظرية قدرتها على شحذ الطاقات المؤمنة بها والعاملة لها بأقل معدل انحراف بشري عنها في التطبيق العملي.

هذه المراجعات الحادة تنتج انقلابًا على الأيديولوجيا أو انسلاخًا من أفكارها ومقوماتها وتبرؤاً شديدًا منها أو تعديلا ضروريًا في مساراتها كالبيريسترويكا على سبيل المثال، أو تطرفًا أكثر في الأخذ بنسقها الفكري، كأنَّ الانهيار كان بسبب التراخي عن الأخذ بتمام نظرياتها بصرامة!

 من المشاريع الفكرية التطبيقية التي واجهت فشلا ذريعًا منذ برهة من الزمن، مشروع التنظيمات الإسلامية على الأصعدة والمستويات كافة في عديد من دول الإقليم. أذكر هنا مشروع التنظيمات الحركية الإسلامية تمييزًا لها عن مد الإسلام كدين أو الصحوة الإسلامية على صعيد المعرفة والوعي بالدين والالتزام القيمي والأخلاقي والسلوكي المبني على تعاليمه الخالدة. فالصحوة الاجتماعية والفردية الملحوظة لم تتحوَّل إلى مشروع تنظيمي شمولي منافس على صدارة المجتمع. بينما إسلام التنظيمات بقي على النقيض من ذلك صاحب مشروع شمولي يريد الهيمنة على كل مفاصل الحياة وفق أيديولوجيا متنوعة ومركَّبة تقدِّس الاجتهادات والأفهام البشرية وتعاليم مؤسسي التنظيمات بنفس درجة تقديس النصوص الأصلية الثابتة وربما أشد!

الباحث المنصف لن ينكر إسهام التنظيمات الإسلامية في بعض أخلاقيات وتصورات الصحوة، كما لن ينكر أنَّ ظاهرة الصحوة ذاتها أوسع كثيرًا من الحالة التنظيمية، ولن ينكر كذلك الآثار السلبية على الصحوة جرَّاء الانكسارات والمواجهات الشرسة التي ووجه بها الإسلام التنظيمي!

نحن هنا في أعقاب تلك الانتكاسة الكبرى أمام نماذج من المراجعات المريرة تؤدي إما إلى الانسلاخ من الأيديولوجيا؛ أو الانقلاب عليها، أو العمل على إصلاح بنيتها الأساسية، أو التطرف أكثر في التمسك الحرفي بأشد مقولاتها حدة!

يعنيني في هذا المقال عملية الانسلاخ الكلي من الأيديولوجيا الإسلامية الحديثة والمعاصرة، لأطرح هذا السؤال: أيها المنسلخون من أي الدوائر تنسلخون؟! أمن دائرة ثوابت الدين قطعية الثبوت والدلالة؟ أم من دائرة مكارم الأخلاق؟ أم من دائرة ما استقرت عليه البشرية عبر تاريخها من الفطرة السليمة السوية؟

أم تنسلخون من دائرة اجتهاد الفقهاء الأعلام التي تلقتها الأمة عبر تاريخها بالقبول والاحترام؟ أم تنسلخون من التأويلات الحركية والتنظيمية والسياسية لمنظومة إسلام التنظيمات؟  

في يقيني أنَّ الدوائر الثلاث الأولى لا يمكن الانسلاخ منها لكل صاحب دين أو عقل أو خُلق أو مروءة.

لا يمكن الانسلاخ من نصوص قطعية الثبوت والدلالة، ولا يمكن الانسلاخ من الخلق القويم والفطرة المستقيمة بذريعة مخالفة أتباع التنظيمات. فأتباع التنظيمات يصلُّون فهل نترك الصلاة لنخالفهم؟! الدائرة الرابعة دائرة اجتهاد وفهم واستنباط من النصوص وهو أمر يتجدَّد ويتسع بتجدُّد الزمان واتساع المكان، لا يعني ذلك نسف التراث أو تقديسه، وإنما احترامه ومراجعته ونقده في ضوء الثورات العلمية والصناعية والتقنية والإعلامية، والبناء على ما يصلح البناء عليه، وتجديد ما وجب تجديده، ورفض ما تعارض مع المنطق أو تعسف في تأويل النص وهو قليل.

 أمَّا الدائرة الخامسة وهي دائرة تصور التنظيمات الإسلامية للدين والعالم والحياة، وهي دائرة شائكة شديدة التركيب والتعقيد فما وافقت فيه الدوائر الثلاث الأولى قبلناه، لأنَّه موجود ومستقر من قبل نشوء التنظيمات ومن بعدها. وما تعصَّبت فيه للتراث بغير نقد وتدقيق ومراجعة، أجرينا عليه مبدأ المراجعة والنقد. وما انفردت به من تأويلات خالفت فهم الأُمة واعتمدت على الشاذ من المرويات أو ما فيه تعسف في الاستدلال بالنصوص، تركناه وحذرنا منه وبيّنا عِوجه.

في أيديولوجيا التنظيمات كثير مما يجب الانسلاخ منه، السرية، والانغلاق، والقراءة التنظيمية للنصوص المقدسة قرآنا وسُنَّة وسيرة نبوية، وشمولية التنظيم ليصبح مجتمعًا بديلا داخل المجتمع، أو دولة داخل الدولة، التأسيس الفكري للانعزال النفسي عن عموم المجتمع، تغيير في ترتيب الأولويات الشرعية، الاستغراق في التاريخ دون مواكبة الواقع فكريًا وعدم تقديم نظريات عصرية في السياسة والحُكم والإصلاح الاجتماعي انكفاءً على أشكال التراث، التدليس أحيانًا عند الخلط بين نصوص الأمة أو جماعة المسلمين، وإنزالها على واقع جماعة التنظيم بغير وجه، التعصب الأعمى أحيانًا لقادة التنظيمات وقرارات التنظيم دون مراجعة شرعية وعقلية واعية، غياب المؤسسية والشفافية والمحاسبة والمراجعة للقيادة، الإيمان المطلق بنظرية المؤامرة الكونية دون القدرة على صنع مواجهة تلك المؤامرات، البقاء اللانهائي في موقع أصحاب الأخدود والكربلائية الدائمة واستعذاب دور الضحية، وغير ذلك مما يجب أن يُنسلخ منه دون أن يطال هذا الانسلاخ ثوابت الدين ولا القيم الثابتة ولا مكارم الأخلاق، ولا السمات الشخصية التي تعارف البشر على سويتها وصلاحيتها من الشجاعة والشهامة والغيرة على الأعراض والمحارم، والجدية، والوقار والحشمة وتجنب مواضع اللغو والزور، والنجدة، والإباء وغير ذلك الكثير من شيم الكرام..

من أجل ذلك فليحذر المنسلخون من الانسلاخ من ذواتهم التي بين جنوبهم ابتغاء مخالفة أتباع التنظيمات الإسلامية.