في ذكراه الثامنة.. نصر حامد أبو زيد من الإخوان إلى المعتزلة

فى كتابه نقد الخطاب الدينى بدا نصر كما لو كان قد دخل إلى عُش الدبابير أو كما لو كان قد دخل إلى منطقة حرام فيها التجديد أو الاستعانة بالعلوم الحديثة وبدل أن يحاول سدنة الخطاب الدينى بنزعاته المحافظة خصوصًا من السلفيين الجامدين من القدماء وأمثالهم من المحدثين.

بقلم: جابر عصفور

كنت فى بداية معرفتى  بنصر حامد أبو زيد أستغرب إعجابه بالإخوان المسلمين وقراءة كتب سيد قطب ومحمد قطب وأستاذهما حسن البنا، وفى الوقت نفسه يتزايد إعجابه بأمين الخولى، ويقرأ ما يكتبه فى مجلة «الأدب» التى كانت النافذة الأولى لإبداع نصر الشعرى، وكان قصيدة فى الهجوم على نزار قبانى شاعر الأميرات والمترفات. ويتزايد إعجابه بكتابات أمين الخولى، عن المجددين فى الإسلام، ويتعمق فى فهم مذهبه فى التفسير الأدبى للقرآن، وذلك فى نهج يصل بين الخولى والمعتزلة الذين هم رواد التيار العقلانى فى الإسلام. وكانت الغلبة- فى النهاية- لفكر المعتزلة المفتوح والإيمان بضرورة تجديد الفكر الدينى الإسلامى، كى يواكب أفكار العصر وإبداعاته. أعنى ألوان الإبداع الشعرى التى بدأت تصل نصر بشعر صلاح عبد الصبور وصلاح ﭽـاهين على السواء.

يبدو أن القبض على سيد قطب بسبب تآمره ضد نظام عبدالناصر الذى كان مقربًا إليه فى بداية قيام ثورة يوليو 1952، وما انتهى إليه تنظيمه من نهاية مأساوية، وما تكشف من أفكاره الإرهابية، ساعد نصر على التخلى عن تعاطفه مع الإخوان المسلمين، واستبدال التيارات العقلانية فى الحضارة الإسلامية بفكرهم السلفى. وهو الأمر الذى جعله أكثر تقبلًا للاختلاف وداعية لحق الاختلاف على السواء. وكان ذلك فى مسار سرعان ما باعد بينه وسلفية الإخوان الذين كان صديقًا لهم قبل أن يدخل الجامعة، ويتعرف عن قرب على أفكار أمين الخولى، ويقترب من أفكار حسن حنفى التى ظل يضعها موضع المساءلة طوال سنوات تلمذته المباشرة عليه، فأصبح عقلانى الهوى، يميل إلى وضع الأفكار الجديدة موضع المساءلة، أقرب إلى أهل العقل والاجتهاد منه إلى أهل التقليد والنقل. وظل بعد تخرجه كما كان قبل التخرج بسنوات، عقلانى الهوى، هادئًا رزينًا فى سلوكه الحياتى وفى اختياراته على السواء، مع ميل إسلامى يتجاور فيه الصفاء الروحى مع نزعة عقلانية لا تخطئها العين فى سلوكه أو مواقفه. ولذلك تحولت العلاقة بيننا، ولم تعد علاقة بين تلميذ وأستاذ، وإنما علاقة بين صديقين حميمين، تربط بينهما أواصر ود عميق وتقارب فكرى حميم. وكان نصر ينوى المضى فى تخصص الدراسات البلاغية والنقدية، وهو المجال الذى اخترتُه لتخصصه، ولكن أساتذتنا فى القسم كانوا أميل إلى أن يضعوه فى تخصص آخر، وذلك لحاجة القسم إلى معيد نابه فى فرع الدراسات الإسلامية التى هى تخصص مهم من التخصصات الموجودة فى قسم اللغة العربية الذى لابد للمتخرج فيه إتقان علوم التفسير وعلوم الحديث على السواء. وعندئذ اضطر نصر إلى تغيير تخصصه، فسجل لدرجة الماجستير أطروحته عن «المجاز القرآنى عند المعتزلة»، وفرغ منها سنة 1976. وهى أطروحة تظهر انحيازه الواضح إلى الفكر المعتزلى بأصوله الخمسة، وأولها أصل «التوحيد» الذى ينفى عن الله كل صفة تتعارض مع التنزيه المطلق، وذلك بما يجعل من صفاته عين ذاته. ويلى ذلك أصل «العدل» الذى يجعل الإنسان مسئولا عن أفعاله، حرا فى اختياره، وذلك بما يؤكد معنى الإثابة والعقاب اللذين لا يكتمل معناهما إلا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، إن خيرًا فخير أو شرًّا فشر. وهى المسئولية التى تلزم الإنسان بالثورة على الظلم السياسى والاجتماعى، وعدم طاعة الحاكم إن ظلم وهجر العدل، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وهو مبدأ يؤدى إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، كما يتصل بأصل الوعد والوعيد، فضلًا عن أصل المنزلة بين المنزلتين. ولا ينفصل عن أصل العدل وما يلزم عنه من تسليم باستقلال العقل وقدرته الذاتية على التحسين والتقبيح العقليينِ، فما حسَّنه العقل فهو حسن، وما قبَّحه العقل فهو قبيح، فالعقل هو حجة الله على خلقه، وهو النور الذى يهديهم إلى ما فيه خيرهم وكمال دينهم.

حتى عندما قام نصر أبو زيد بعد ذلك بتسجيل أطروحته للدكتوراه فى موضوع «التأويل عند ابن عربى»، وفرغ منها بعد ذلك بسنوات معدودة، وكان المشرف عليه هو أستاذنا العظيم المرحوم عبد العزيز الأهوانى، الذى تعلم منه نصر القواعد المنضبطة للعقلانية الإسلامية الحقيقية، وهو الأمر الذى جعل نصر ينحاز فى توجهاته الفكرية إلى ما يصل بين المعتزلة وابن رشد فى مركب التأويل ووصلهما معًا بالتصوف، خصوصًا عند ابن عربى الذى قام منطق تصوفه على «التأويل». وهو الأمر الذى وصل نصر أبو زيد بحبال «الهرمنيوطيقا» الحديثة، أو فلسفة التأويل فى تجلياتها الغربية الممتدة، والواصلة بين آليات تفسير النصوص المقدسة ونصوص الإبداع البشرى.

من المؤكد أنه كان للاعتزال النصيب الأوفر من الجاذبية التى قاربت ما بين الفكر الاعتزالى والأفكار الحديثة التى تتجاوب والاعتزال ولا تتناقض معه، ولذلك كان أول كتاب نشره نصر أبو زيد بعد حصوله على الدكتوراه هو كتاب «مفهوم النص» الذى كتبتُ عنه مقالًا فى مجلة «إبداع» وقت صدوره بعنوان «مفهوم النص والاعتزال المعاصر».

هكذا تحوَّل نصر من فكر الإخوان المسلمين السلفى بمعناه الضيق الذى يهدف إلى تأسيس دولة دينية، الهدف منها هو تأسيس خلافة تضم العالم كله، إلى مفكر اعتزالى بالمعنى المعاصر، يتزود بأسلحة العصر ليواجه - فى العصر الحديث- قضايا من ذلك النوع الذى يتجاوب وحاجات المسلم المعاصر وتحديات عصر ما بعد الصناعة، وذلك فى خطاب دينى متطور، يصل ما فى هذا العصر من تحديات غير مسبوقة، بالمتطلبات الروحية، وأعظم ما فى تراثنا الدينى والروحى من نزعات عقلانية وتأويلات فلسفية وإشراقات صوفية، لا سبيل إلى مواجهتها مواجهة ناجحة إلا بنزعة تصل عقلانية المعتزلة بصوفية ابن عربى وفكر ابن رشد، خصوصًا فى كتابه «فصل المقال فى ما بين الحكمة والشريعة من اتصال».

من هنا بدأت أشكال الصدام بين فكر نصر أبو زيد والجامدين من أنصار الإسلام السياسى، وأخذت المسافة تتزايد فى التباعد بين ما انتهى إليه فكر نصر ودراسته الحديثة فى علوم التأويل (الهرمنيوطيقا) فضلًا عن علوم الدلالة والإشارة والعلامات (السميوطيقا) وكيفية الاستفادة منهما فى فهم النص القرآنى، ومن ثم تطوير الخطاب الدينى، وما انتهى إليه الفكر الدينى من سلفية جامدة غالبة.

 

لم يقصد النص المقدس

لم يكن نصر يعنى بالخطاب الدينى النصوص المقدسة، وإنما كان يستخدم هذا المصطلح الذى نقله عن السياقات الأوروبية المترتبة على فكر ميشيل فوكو للدراسات البشرية أو الأفهام الإنسانية للنصوص المقدسة. وكان ذلك يعنى عند نصر حامد أبو زيد أن هناك فارقًا كبيرًا جدا بين النصوص الدينية فى ذاتها (قرآنًا أو سنة صحيحة) والتفسيرات البشرية لهذه النصوص الدينية (الأولى) وذلك على نحو يفصل تمامًا بين ما يعتبره نصًّا أوَّلًا متعدد الجوانب، والنص الثانى وهو النصوص البشرية حول الدين. وإذا كان النص الأول له قداسته التى تفرض علينا التسليم به والعمل بمقتضاه وفهمه فهمًا مباشرًا أو تأويليًّا، بعيدًا عن مقاييس الصواب والخطأ، فالنص الثانى، وهو نص بشرى، يتجسد فى خطاب إنسانى وليس إلهياً عن الدين، وهذا هو الخطاب الدينى الذى هو خطاب بشرى فى النهاية يتمتع بكل الصفات البشرية بما فيها من إيجابيات وسلبيات على مستوى احتمالات الصحة أو الخطأ أو محاولات التنزيه عن المنافع أو جذب النصوص إلى المنافع والأغراض الدنيوية: دينيًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا.

ترتب على هذا التمييز أن تحدَّث نصر حامد أبو زيد عن نقد الخطاب الدينى الذى يعنى خطاب البشر عن الدين. وكانت كلمة «النقد» هنا بمعناها الفلسفى الذى يعنى وضع هذا الخطاب موضع المساءلة الفلسفية التى تبين عن عناصر بنيته وغائياتها وأهدافها على السواء. وكان ذلك كله فى توازٍ مع ما حدث من تقدم فى ثقافة نصر أبو زيد ومعارفه، خصوصًا بعد أن ذهب إلى الولايات المتحدة فى منحة لمدة عام تبعتها رحلة أخرى إلى اليابان لتدريس العربية وعلومها لمدة أربعة أعوام. وقد تعلم نصر أبو زيد فى الولايات المتحدة واليابان علوما حديثة ترتبط بالمفاهيم الأجد لمعانى النص أو منجزات البنيوية وما بعدها من تقدم فى علوم السميوطيقا (علم العلامات) والهرمنيوطيقا (علم التأويل)، وقد بدا ذلك واضحًا فى كتابه الأول عن مفهوم النص، كما بدا على نحو أوضح فيما كتبه تحت عنوان «نقد الخطاب الدينى»، وهنا بدا نصر كما لو كان قد دخل إلى عُش الدبابير، أو كما لو كان قد دخل إلى منطقة، حرام فيها التجديد أو الاستعانة بالعلوم الحديثة. وبدل أن يحاول سدنة الخطاب الدينى بنزعاته المحافظة، خصوصًا من السلفيين الجامدين من القدماء وأمثالهم من المحدثين، محاولة تَفهُّم ما يقال، استجابة لروح العصر ومتغيراته، انهالوا على كتابات نصر بالهجوم والتجريح والتكفير أيضًا – عملا بالمبدأ القديم: من جهل شيئا عاداه. وهنا بدا المشهد منطويًا على نوع من المفارقة المأساوية: باحثٌ يتسلح بعلوم العصر ليحاول أن يجدد فى فَهْم الخطاب الدينى البَشرى، فى مقابل باحثين محافظين يرفضون التجديد أو حتى إعادة النظر فى آرائهم أو مراجعة أفكارهم أو حتى وضع مُسلَّماتهم الأساسية موضع المساءلة. وكان الصدام حتميًّا بين الفريقين، فريق غالب متمركز فى وظائف تقليدية يستند إليها، ويتكسب منها، هو الأكثرية، وطليعة قليلة ضعيفة التأثير، عنيدة فى رغبتها فى تجديد الخطاب الدينى عملًا بالقاعدة التى يؤديها معنى الحديث الشريف: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها».

 

لحظة الصِّدام

كانت النتيجة الصدام الذى حدث عندما تقدم نصر حامد أبو زيد للترقية إلى درجة أستاذ فى قسم اللغة العربية إلى لجنة الترقيات، فأوكلت هذه اللجنة التى كان يرأسها الدكتور شوقى ضيف ( الذى كان رافضا لاتجاهات التجديد فى نقد الخطاب الدينى أصلا) إلى المرحوم الدكتور عبد الصبور شاهين الذى كان مستشارًا لشركات توظيف الأموال التى أسهمت فى تخريب الاقتصاد المصرى فى زمن صعودها. ومسئولًا عن الفكر الدينى للحزب الوطنى. وكان من الطبيعى أن يرفض تقرير عبد الصبور شاهين ترقية نصر أبو زيد مُتهمًا إياه بالخروج على الدين والكفر، وكان رفض الترقية صدمة كبيرة لكل الأوساط الجامعية الحريصة على التقدم فى طريق الاستنارة الدينية، والدولة المدنية السياسية على السواء. وتحالفت القيادات الجامعية المذعورة أصلًا من القوى السلفية والميالة إلى فكر الإخوان المسلمين فى الوقت نفسه ضد ترقية نصر أبو زيد، ورفضت اعتراض مجلس القسم ومجلس الكلية فى آن على قرار رفض الترقية. وكان فرسان هذا الرفض من الأساتذة الذين ينتسبون إلى السلفية الوهابية وجماعات التأسلم السياسى، متحالفين مع الأطراف المتعاطفة مع الإخوان المسلمين والساعية إلى التصالح مع جماعات الإرهاب الدينى فى الوقت نفسه. أما الجبهة الأخرى، فكانت من أنصار الدولة المدنية الحديثة، فى وقت لم تكن الحكومة قد حسمت أمرها فى محاولة التوسط بينها وبين الجماعات الإرهابية. وما لبث الأمر أن اتضح عندما حسمت الدولة أمرها وقررت عدم المضى فى المصالحة والحفاظ على الدولة المدنية وتقاليدها. فأُقيل وزير الداخلية الذى كان يسعى إلى هذه المصالحة، كما أُقيل رئيس الجامعة وجاء بعده رئيس جامعة آخر أكثر استنارة وأكثر فهمًا لمعنى الجامعية فى العصر الحديث، وهو الأستاذ الدكتور مفيد شهاب، الذى نظر إلى القضية من منظور مناقض، خصوصًا بعد أن اتخذت القضية أبعادًا عالمية إلى جانب أبعادها المحلية والقومية، وفى ظل شروط مختلفة ارتبطت بمتغيرات حكومية جديدة، أهمها رفض محاولات التوسط للمصالحة بين الحكومة ومجموعات التطرف الدينى، ومن ثم إزاحة المسئولين عن هذه المحاولات، وعلى رأسهم تغيير تشكيل اللجنة العليا للترقيات فى الجامعات المصرية فى شهر يناير 1995، خصوصًا بعد أن اكتسبت اللجنة السابقة سمعة سلبية لم تتخلص منها قط.

كان من الطبيعى أن يتغير الموقف بعد أن خرجت من لجنة الترقيات الشخصيات التى اعتمدت التكفير منهجًا فى النظر، ودخلت إليها شخصيات تعرف معنى القيم العلمية والتقاليد الجامعية التى لا ينبغى الانحراف عنها لغايات غير علمية. وكان من نتيجة ذلك أن تقدم الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى اللجنة الجديدة بالأعمال التى رآها صالحة لتمثيل إنتاجه الغزير، وقامت اللجنة الجديدة بترقيته بالفعل. وسرعان ما وافق القسم ومجلس الكلية ثم الجامعة، وأصبح نصر أستاذًا للدراسات الإسلامية فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب. ولكن المتأسلمين ودعاة السلفية الجديدة كانوا له بالمرصاد، وسرعان ماقام بعضهم برفع قضية حسبة، مطالبين بالفصل بين نصر أبو زيد (الكافر) الذى لا ينبغى أن يعيش مع زوجه التى لا تزال على إسلامها. ولحسن الحظ أن المحكمة الابتدائية قد رفضت دعواهم وحكمت عليهم بأن يدفعوا مصاريف القضية، ولكن هؤلاء الخصوم الذين رفعوا القضية الأولى سرعان ما وصلوا بها إلى الاستئناف، وذلك بزعامة المستشار محمد صميدة عبد الصمد الذى كان نائبًا لرئيس مجلس الدولة الأسبق. ولكن سرعان ما غاضت الفرحة، إذ نقل الخصوم من أعضاء الجماعات السلفية والإخوان الخصومة إلى محكمة الاستئناف فى إحدى دوائرها التى كانوا يسيطرون عليها، وكانت النتيجة للأسف هى الحكم بالتفرقة بين نصر وزوجه. وكانت الفضيحة عالمية بكل معنى الكلمة. وقد كانت هذه هى المرة الأولى فى العالم التى تشهد فيها الدنيا بأسرها قاضيًا يحكم بالتفريق بين أستاذ جامعى مسلم وزوجه لمجرد الاختلاف بينه وخصومه فى الاجتهاد، فأصدر القاضى حُكمًا، وترتب عليه فضائح لم تتوقف على امتداد العالم كله. وكان من نتيجة هذه الفضائح خصوصًا لأستاذ كانت سمعته العلمية قد وصلت إلى أوساط عالمية معروفة باتزانها وعراقتها فى الدراسات الإسلامية، أن دعت جامعة «لايدن» فى هولندا نصر حامد أبو زيد ليكون أستاذًا فيها. ولم يملك نصر إلا قبول الدعوة، والسفر سرًّا إلى إسبانيا حيث كانت زوجه تشارك فى أحد المؤتمرات، ومنها إلى هولندا حيث عاش مُعززًا مُكرمًا إلى أن تصل القضية إلى محكمة النقض. وللأسف لم تكن قوة التيارات الإسلامية الرجعية فى مصر قد تناقصت، وإنما تزايدت.

سيف الحكم ظل مجرداً ضده

هكذا أصدرت محكمة النقض للأحوال الشخصية فى الخامس من أغسطس سنة 1996 حكمها الذى لابد أن يحفظه لها التاريخ، ويسجله الوعى الثقافى لطليعة الأمة، مقرونًا بالإحباط وصدمة الدهشة وخيبة الأمل بالفصل بين الدكتور نصر أبو زيد وزوجه. وعلى الفور رفع محامى الدكتور نصر دعوى مستعجلة لإيقاف الحكم بالتنفيذ، وقد صدر هذا الحكم فعلًا، لكن ظل سيف الحكم معلقًا على الرءوس كالبصمة السوداء فوق الجباه. وعرف نصر أبو زيد فى منفاه الاختيارى، فلم يملك إلا أن يرسل رسالة حزينة إلى المثقفين على امتداد الوطن العربى عمومًا، وفى وطنه المصرى خصوصًا، قائلًا لهم: أخيرًا يا أبناءَ وطنى، مسلمين ومسيحيين، يا مُبدعى مصر، ويا أدباءها وفنانيها ومثقفيها، وكُتّابها وصحفييها الباقين على العهد، يا أساتذتى وزملائى وطلابى، يا كل المحامين الذين نهضوا – منذ مايو 1993 وحتى الآن- يحاولون الدفاع عن نضارة وجه الإسلام: أعلم أننى لست وحدى، فقد لقيت من مساندتكم ودعمكم ما هو جدير بكم، وعليَّ أن أرد الجميل فأثبت لكم أننى جدير بدعمكم ومساندتكم. والسبيل الوحيد هو الاستمرار فى العمل، والبحث والكتابة، فى أى مكان من أرض الله الرحبة الواسعة. صوتى سيكون دائمًا معكم فى كل معارك الحق والعدل والشرف. وستصلكم كتاباتى واجتهاداتى الفكرية من أى مكان أكون فيه، فليس الوطن مجرد مكان نعيش فيه، بل هو بالأحرى حلم يعيش فينا. لقد صار الدفاع عن نضارة الإسلام منذ الآن أكبر من أن يكون همًّا أكاديميًّا، صار مسألة حياة أو موت، أن تكون أو لا تكون، وإذا كان شعار العالم «أنا أفكر فأنا موجود» فليكن شعارنا «أنا أفكر فأنا مسلم».