في ذكرى رحيل الشيخ العقلاني.. خليل عبد الكريم

عبد الكريم قدم رؤية للتراث بهدف إيجاد منهج علمي لدراسة التاريخ الإسلامي على ضوء الظروف التاريخية الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي أحاطت بظهور الشريعة الإسلامية ومدى تأثير هذه الظروف على طقوس الشريعة.

بقلم: بابكر فيصل

مرَّت في الرابع عشر من هذا الشهر الذكرى السابعة عشر لرحيل المفكر المصري الكبير، خليل عبد الكريم، الذي رحل عن الدنيا تاركا وراءه أكثر من ثلاثة عشر كتابا هي جماع مشروعه الفكري الذي يعتبر واحدا من أهم محاولات التجديد عبر تناول التراث الإسلامي من منظور عقلاني بعيدا عن النظرة المثالية التي تتعالى على التاريخ والوقائع الاجتماعية ولا ترى أفقا للمستقبل إلا من خلال استرجاع الماضي المؤسطر.

ولد خليل عبد الكريم بمحافظة أسوان في جنوب مصر، وأنهى دراسته للفقه والشريعة الإسلامية في الأزهر مطلع الخمسينيات، كما درس القانون في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) وتخرج فيها عام 1951. انضم لجماعة الإخوان المسلمين مبكرا، وعمل محاميا في مكتب الأستاذ عبدالقادر عودة، ولكنه ترك الجماعة وانضم في سنواته الأخيرة لحزب التجمع اليساري.

رحل الشيخ خليل عبد الكريم وما تزال قوى الاستنارة في العالم الإسلامي تسعى لتبديد الظلمات

في أول كتبه "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" قدَّم عبد الكريم رؤية للتراث بهدف إيجاد منهج علمي لدراسة التاريخ الإسلامي على ضوء الظروف التاريخية الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي أحاطت بظهور الشريعة الإسلامية ومدى تأثير هذه الظروف على طقوس الشريعة وقواعدها باعتبار أن كل جديد لا يولد من عدم بل لا بد أن يحمل في طياته أثر من القديم الذي سبقه.

في كتابه الثاني "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية" واصل الأستاذ خليل جهده الكبير في إعمال المنهج التاريخي لقراءة واقع الجزيرة قبل البعثة المحمدية، حيث قام بدراسة وتحليل الوقائع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية التي ساهمت في تحقيق حلم قيام دولة قريش، ذلك الحلم الذي راود قصي بن كلاب ولكنه تحقق تحت لواء الإسلام على يد الحفيد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.

أما دراسته الفذة "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة" التي جاءت في ثلاثة مجلدات، فقد سعت لتناول موضوع الصحابة بموضوعية صارمة لا مجال فيها للمشاعر الخاصة والأحكام المسبقة، حيث سعى للاقتراب من مجتمع الرجال والنساء الذين عاصروا النبي، عاملا على استكشاف السلوكيات والعلاقات التي ربطت بينهم في مختلف أبعادها الإنسانية، إضافة لعلاقتهم بالرسول، بدون تهوين أو تهويل وبعيدا عن حالة الانبهار والتقديس التي منحها لهم المسلمون المتأخرون.

ويجدر بي في هذا الإطار الاشارة إلى أن عبد الكريم تميز عن الكثيرين من دعاة التجديد بأن كل المراجع التي استند إليها في مؤلفاته تعتبر من المصادر الموثوقة في التاريخ الإسلامي والفقه والحديث والتفسير وغيرها، ولذا فقد جاء تحليله واستنتاجاته معضدا بالنصوص والبراهين التي هي محل تقديس خصومه.

لكنه مع ذلك لم يسلم من محاولات التكفير، حيث أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قرارا بمصادرة كتابه "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" الذي صدر في عام 2001، وقال إنه "يمثل عملا عدوانيا على عقيدة الأمة الإسلامية ينكر مبدأ الرسالات السماوية إنكارا قاطعا"، كما قال حينها الأمين العام لجبهة علماء الأزهر يحيى إسماعيل، إن الكلام الوارد في الكتاب "لا يحتمل حكما آخر غير الكفر".

أتيحت لكاتب هذه السطور فرصة لقاء الأستاذ خليل بمنزله بالقاهرة في كانون الثاني/يناير عام 2001، وجرى حوارا طويلا تطرق للعديد من القضايا والمشكلات الفكرية التي تواجه المجتمعات الإسلامية والعقبات التي تقف في طريق التنوير.

طرحت عليه السؤال التالي: مسيرة التنوير التي بدأت في القرن التاسع عشر مع الإمام محمد عبده والطهطاوي واستمرت مع الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين حتى وصلت إلى تياركم، ما هي ملامحها وماذا حققت؟

أجابني قائلا: "الأفغاني ومحمد عبده وحسن العطار ورفاعة الطهطاوي كانوا ينطلقون من أرضية دينية تقليدية ومع تقديرنا لهم فإنهم حاولوا فقط تجميل الصورة وتحسينها. التجديد بالنسبة لهم لم ينطلق من معالجة النصوص الأصلية وهي القرآن والسنة (الصحيح من الأحاديث) ولا الثانوية (أقوال الصحابة والتابعين إلخ)، فبعد القرآن والوحي حدثت عملية إغلاق للنصوص الدينية وأصبحت الأفكار مغلقة أو مقفلة وهذه النظرة للأسف ما زالت سائدة حتى الآن. التنويريين الأوائل حاولوا تحسين هذه الصورة وذلك بعملية انتقائية للنصوص أو محاولة تأويلها تأويلا لا يتسّق مع موجبات اللغة، ولعلنا نذكر تفسير الأستاذ الأمام محمد عبده لمسائل الجن والملائكة رغم أن اللغة لا تتفق مع ذلك التفسير. أما حركتنا نحن فتخالف هذا حيث ننادي بحركة نقدية وتفكيكية للنصوص التأسيسية أو الأشخاص الذين أخذوا قداسة على مر القرون وأصبحت أقوالهم في مصاف النصوص التأسيسية، ولذلك فإن مهمتنا ومحور حركتنا هو زحزحة هيمنة النصوص، سواء التأسيسية أو الثانوية على العقليات وسيطرة الشخصيات التي أصبحت شبه أسطورية إن لم تكن أسطورية وهذه الخطوة ليست سهلة وستجد صعوبات وعقبات لا تتخيلها ولعل فيما حدث لنصر أبوزيد مثال بسيط، ولا يوجد طريق سوى هذا لأن الانطلاق من نفس النقطة السلفية لن يؤدي إلى شيء.. وينطبق عليها وصف "محلك سر".

كذلك سألته: أهل الإسلام السياسي يجادلون أن مبدأ "تاريخية النص" الذي يطرحه تياركم ما هو إلا دعوة لوضع القرآن في متحف التاريخ وتجريده من فعاليته وهو الأمر الذي يتناقض مع صلاحيته لكل زمان ومكان؟

فأجابني قائلا "نحن عندما ننادي بمبدأ تاريخية النص نبتعد ابتعادا كاملا عن العقيدة والعبادة فلا نقول ـ نحن أدعياء التنوير ـ بأن الصيام يعطل الإنتاج أو نقول يكفي صلاتين فقط في اليوم، هذا كلام مرفوض رفضا باتا، أما فيما عدا هذا فهو يعتبر من أمور الدنيا التي قال عنها المصطفى (ص): أنتم أعلم بشؤون دنياكم، بما في ذلك الحدود والمواريث والأحوال الشخصية، كل هذه من أمور الدنيا فإذا طبقنا مبدأ التاريخية على هذه الأمور الأخيرة سنجد أنها جميعا متصلة بظروف تاريخية معينة".

من بين الأسئلة التي طرحتها عليه أيضا: على ذكر قضية المواريث هذه، هل من قراءة أخرى لقضية المرأة في الإسلام عبر البحث في قضيتي الشهادة والميراث؟

كانت إجابته كالتالي : "النصوص الأصلية التأسيسية في هذا المجال فتحت الباب بجعل المرأة ترث نصف الرجل وشهادتها نصف شهادة الرجل وكان هذا بمثابة ثورة على الأوضاع الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن، وهي من النقاط الإيجابية الرائعة التي تحسب للإسلام لأنه كان من المستحيل مساواة المرأة بالرجل في ذلك المجتمع وكان من المنتظر من واضعي النصوص الثانوية أو التكميلية توسيع المجال ولكن للأسف الشديد تغلبت عليهم العادات القبلية والتعصب الذكوري فلم يكتفوا بما منحه النص التأسيسي بل حاولوا تحجيمه، فعلى سبيل المثال نجد أن فقيها مثل ابن تيمية يفتي بأنه ليس من حق المرأة أن تأخذ نقودا في يدها حتى لشراء ملابسها الداخلية جدا وأن الرجل هو الذي يشتريها لها وأن على المرأة كذلك أن تخدم زوجها وأولادها وكذلك عبيد زوجها وطبعا هذه نظرة ذكورية وتحويل للمرأة إلى أقل من أمة (عبدة)، فإذا انتقلنا إلى الآلية التاريخية التي ننادي بها نجد أن الظروف التاريخية تحتم زحزحة هذه القواعد الميراثية لأنه إذا كانت المرأة في ذلك الوقت لا تشارك في عملية الإنتاج بأي صورة من الصور ولا حتى في الغزوات التي كانت تشكل عنصرا مهما في الدخل، فإن المرأة الآن تعتبر عنصرا هاما جدا في الإنتاج والخدمات وفي كل المجالات فمن الظلم إذن مقارنة المرأة في القرن الحادي والعشرين بالمرأة في القرن السابع، وحيث أن النصوص المذكورة قد ظهرت في أقل المناطق حضارة في ذلك الزمن (الحجاز)، فمن الظلم مقارنة المرأة البدوية الأمية الجاهلة التي لا تفرِّق كما يقول المثل في صعيد مصر بين "كوز الذرة والألف"، بأستاذة جامعية أو مهندسة أو طبيبة؛ المرأة في ذلك الزمان العجيب لم تكن معارفها تتعدى ما كان يحدث في مضارب قبيلتها، أما المرأة اليوم فإنها ـ حتى لو كانت أميّة ـ تشاهد التلفزيون وتستمع للراديو فما بالك اذا كانت متعلمة ومثقفة.

القرآن عندما أعطى المرأة في القرن السابع حق نصف الشهادة فإنه في رأيي أعطاها أكثر مما تستحق وأنصفها بصورة غير متوقعة، الآن من حقها أن تساوي شهادتها شهادة الرجل، وفي نهاية المطاف نقول إن الميراث والشهادة ليست من أركان الإسلام وإلا كان نص عليها".

رحل الشيخ خليل عبد الكريم وما تزال قوى الاستنارة في العالم الإسلامي تسعى لتبديد الظلمات التي سادت منذ عدة قرون وجعلت المسلمين يقبعون في مؤخرة شعوب الدنيا، وذلك عبر الإجابة عن التساؤلات التي طرحها الراحل الكبير حول العديد من القضايا الجوهرية من شاكلة تحديد العلاقة بين الدين والسياسة وكيفية قراءة النصوص بطريقة جديدة وأوضاع المرأة والنظرة للمجتمعات الإسلامية المبكرة، وغير ذلك من الأمور التي لن يستطيع المسلمون النهوض دون توفير الإجابة عليها بطريقة تتماشى مع متطلبات العصر الراهن.