في ذكرى موسى الكاظم: يا شيعة العراق الأحزان لا تُعمر الأوطان!

المعارضة التي حاولت تسخير الشعائر لشعاراتها في ما مضى استمرت وهي في الدَّولة تلعب اللعبة نفسها حصرت منافع الشِّيعة من التغيير بتكريس خطاب الحزن وسياسة التجهيل!

بقلم: رشيد الخيُّون

أحيا شيعة العراق مرور الذكرى (1245) على وفاة الإمام موسى بن جعفر (183هـ)، بمهرجان لا يغيب عن ناظره كارثة الجسر في السنة قبل الماضية، أي (2005) سقوط جسر الأئمة، وراح ضحيتها ألف وثلاثمئة ويزيد من البشر. وكان المؤرخون قد تباينوا في نقل حدث الوفاة، بين مرور عابر على أنه وفاة طبيعية، وإطناب على أنه اغتيال سياسي. وذكر ابن واضح اليعقوبي (292هـ)، أن الرَّشيد (ت 193هـ) دعا الوجهاء للنَّظر في جسد الإمام، وكان سجيناً، ليشهدوا أنه كان خالياً من أثر اغتيال(1).

إلا أن أبا الحسن المسعودي (ت 436هـ)، يأتي بخبر إطلاق سراحه بأمر هارون الرَّشيد (ت 193هـ)، لما قال لمدير داره ورئيس شرطته: "أمض الساعة حتى تُطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قِبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالإذن في ذلك إليك"(2). ومن جانبه، لم يذكر الطبري (ت 310هـ) شيئاً عن سبب الوفاة، إلا أنه يؤكد موته ببغداد(3).

 أما الغرض من طرح جنازته على جسر بغداد فيقول أبو فرج الأصفهاني (ت 356هـ): لإبطال إشاعة أنه كان المهدي المنتظر(4). وفي هذا السياق، أورد جواد علي (ت 1987) في كتابه «المهدي المنتظر عند الشِّيعة الاثني عشرية» آخذاً عن كتاب «الغيبة» لشيخ الطَّائفة الطوسي (ت 460هـ): أنه بعد وفاة الإمام كتب ولده الرضا إلى وكلائه بشأن الأموال التي تمت جبايتها باسم أبيه، فلم «يستجب لطلبه الوكيل زياد بن مروان بمبلغ 70000 ألف دينار، وكذلك علي بن حمزة بمبلغ 30000، وعثمان بن عيسى الرَّواسي بنفس المبلغ، وإنما نازعوا في شرعية الرضا بدعوى أن الإمام السَّابق لم يمت، وإنما اختفى»(5). إلا أن الذين فشلوا في ترسيخ مهدوية الإمام موسى من أجل المال نجحوا مؤخراً في إحياء مشهد الجنازة.

ليس محايداً ولا منصفاً مَنْ ينكر على الإمام موسى بإجماع المذاهب على ورعه وقربه من النَّاس؛ لكن المتاجرة بآلامه بهذه الصورة تبدو شيئاً مؤلماً. وصار معلوماً أن طرح الجنازة على جسر بغداد، قبل العبور بها إلى الجانب الغربي، مقصوداً لفضح حيلة المستولين على الأموال، وهي ما يعرف بسهم الإمام. ومن المرجح أن تلقف المشهد بجنازة رمزية وصياغته بهذا الشكل الدرامي ظهر مؤخراً، فالرثاء والنوح وقراءة المقتل كان مقتصراً على الإمام الحسين (قُتل 61هـ) ، إنما الآن أخذ يُقرأ مقتل الإمام موسى الكاظم. ولا ريب أن ممارسة الطُّقوس الشعبية، وبهذه الفوضى يشل عمل الدَّولة، وخصوصاً إذا كانت هي الرَّاعية والمشجعة، بل ويكلّفها أموالاً وأرواحاً، حيث الصرف الرسمي حالياً على المواكب.

جاءت المغالاة بذاكرة الأحزان بهذه الطريقة رداً على حجب طويل مارسته الأنظمة السَّابقة، حتى جعلت منه عاطفة مكبوتة انفجرت بقوة في أول انفراج. لكن، إذا نظرنا الأمر معكوساً نجد المعارضة التي حاولت تسخير تلك الشعائر لشعاراتها، في ما مضى، استمرت وهي في الدَّولة تلعب اللعبة نفسها، وكـأنها حصرت منافع الشِّيعة من التغيير بتكثير المواكب وتكريس خطاب الحزن وسياسة التجهيل! مع أن هذا التكوين العراقي الأصيل – الشِّيعة - أولد للعراق كباراً في الفكر والعلم والسياسة والاجتماع والفن.

 تجد العراقي يباري الأمم الأُخر بأسماء أنتجتها مدينة الكاظمية نفسها، حيث جرت الطقوس: عالم الاجتماع علي الوردي (ت 1995)، والمؤرخ جواد علي (ت 1987)، وعالم الدِّين هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت 1967)، والخبير بالأنساب والمخطوطات حسين محفوظ، وصاحب «الصلة بين التَّصوف والتَّشيع» كامل مصطفى الشيبي (ت 2006)، وغيرهم الكثير. ومن هذا المكان نفسه، ظهرت بالعراق الدعوة إلى الإلفة بين المذهبين بسعاية الشَّيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1963). وتفيض الآن منه أيضاً الدعوة إلى التَّسامح بسعاية السَّيد حسين الصَّدر.

قال هبة الدِّين الشَّهرستاني في مجلة «العلم»، قبل الحرب العالمية الأولى، في إحجام العلماء من ترشيد الدِّين الشَّعبي: «صار العالم والفقيه يتكلّم من خوفه بين الطلاب غير ما يتلطف به بين العوام» (6). ولو عكسنا الحالة على القيادات الحزبية الدِّينية اليوم لوجدنا كلمات السَّيد الشَّهرستاني تعنيهم تماماً، فهم إذا خلو بمثقف انتقدوا الممارسة وشجبوها، وإن خلو إلى أصحاب المواكب شجعوها. وإضافة إلى طلب الكسب والاستفادة من مزريات الأحوال بتحشيد الجموع وراءهم، فإن علماء الدِّين، قد يخشون مما واجهته دعوة السَّيد محسن الأمين (ت 1952) إلى تشذيب الأحزان، حيث أنشد فيه أحد خطباء المنبر الحسيني: «يا راكباً إمَّا مررت بجلق.. فابصق بوجهِ أمينها المتزندق». ولو علمنا ما هي منزلة الأمين في العلم والدِّين والمذهب، لأدركنا كم كان هذا الخطيب جريئاً على العلماء، وخالصاً لتجارته.

يبدو من تسخير الفضائيات للدِّين الشَّعبي، وبهذا الثقل، أن وجهاء الشِّيعة لا يميزون بين عصر وآخر، ولعلَّهم لا يعلمون أن احتفاليات الأحزان بهذا الإصرار على جلد الذات والبكائيات لا تعمر الأوطان، إذا علمنا أنهم في قمة السُّلطة. وستبقى الأحزان تمارس بالسلوك الجمعي، وبهذا المستوى، وتستغل من ساسة وتُجار، قال محمد مهدي الجواهري (ت 1997):

                   إذا لم ينَلْها مُصلحونَ بواسلٌ

                                جريئونَ في ما يَدَّعـونَ كُفاة (7)

 نعم، جريئون من وزن السَّيدين هبة الدِّين الشَّهرستاني والمحسن الأمين.

المراجع:

اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي 2 ص 414. ويأتي أبو فرج الأصفهاني على سبب السجن، بأن ابن أخيه علي (عند الكشي محمد) بن إسماعيل أتى إلى بغداد وقابل هارون الرَّشيد، وأبلغه أن الأموال تجبى إلى عمَّه موسى بن جعفر من المشرق والمغرب (مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صقر، بيروت: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1987 ص 414). وفي رواية الكشي: "يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج، وأنت بالعراق يجبى لك الخراج..." (النوبختي، فرق الشِّيعة، ص 68 الحاشية عن رجال الكشي).

المسعودي، مروج الذهب 4 ص 206.

الطبري، تاريخ الأمم والملوك 7 ص 220.

الأصفهاني، مقاتل الطَّالبيين، ص 417.

علي، المهدي المنتظر عند الشِّيعة الاثني عشرية، ص 46.

الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص232 عن مجلة "العلم"، السنة الثانية، ص 266-267.

الجواهري، الدِّيوان 1 ص 393.

فصل من كتاب "ضد الطائفية"، بيروت: دار مدارك، الطبعة الثالثة، 2014(عن خبر وفاة الإمام الكاظم) ص 148-165