في يوم الشعر العالمي... الإنسان لا غيره هدفا

الرؤى النقدية والحيرات التلقوية تظل تتقاذف الاتهامات بخروجه عن نسقه، وثورته على سجانه.
لا شعر بلا حرية، ولا شعر بلا تعدد، ولا شعر بلا سعي لتأكيد إنسانية الإنسان
محيطاتي ومشاكساتي البيئية تخلو تماما من هذه المثيرات

مختار عيسى

لأنه لم يخضع ـ رغم المحاولات الدوائب ـ لتحييزه تعريفيا، واستطاع صانعوه ومتلقوه القفز به غالبا خارج دوائر التسييج الصوارم، وإن حلا لأجيالٍ أوهي استمرأت الاستراحة إلى تعريف أو آخرمن تعاريف الأقدمين المؤطرة له بعبارات ظنوها موانع جوامع، ولأنه تعبير حي عن الإنسان كان لا بد أن يجاهد التثبيت الذائقي، ويفر من التكبيل، ليظل الطائر المتنقل بحرية لانهائية ـ فيما أتصور ـ بين عصر وآخر، وبين بيئة وغيرها، وتظل الرؤى النقدية والحيرات التلقوية تتقاذف الاتهامات بخروجه عن نسقه، وثورته على سجانه .
جائرٌ، مفارقٌ لنصَفته، كلُّ من يرى الشعر الآن كما كان يراه الأقدمون بتعاقب أزمانهم واختلاف بيئاتهم؛ فأسطع من شمس ظهيرة أنه مر بتبدلات بنيوية ورؤيوية، بل ومهمّية، ليس في العصور المتعاقبة والأزمنة المتلاحقة فحسب؛ بل في العصر الواحد وعلى أيدي مجايلين، ومن ثم فإن محاولات التحنيط النقدية التي يصر بعض أصحاب ذوائق التثبيت على النظر إلى الشعر بها تصبح تعبيرا عن اختلالات بنيوية فضلا عن المحاميل الموضوعية غير القادرة على الصمود طويلا في مواجهة التسارعات في الانتقال بالإنسان وحياته من حال لغيرها، قد لا تفصل بينها أيام، بل ساعات ودقائق، في عالم الفضاء المفتوح وسيطرة "الميديا" القمرية والوسائط الالكترونية و"السوشيال ميديا".
ولأني واحد من عاشقيه، وصانعيه، وأراه بعيدا عن التسييج الإطاري؛ فإني لا أرفض نسقا محددا وأميل إلى آخر بصورة إطلاقية، ولكنني أعتمده ـ هذا المعشوق ـ سبيلا لممارسة حريتي الإبداعية في التنقل بين الأنساق، لا أجد غضاضة في الشكل البيتي الذي ظل صامدا القرون الطوال، بصورته القائمة على تساوي الشطرين وفق ما سجله المستقرئ العظيم الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، وبحوره الموسيقية الخمسة عشر، وبحر تلميذه الأخفش، أو حتى ما خالف قوانينه العروضية كـ جمهرة "عبيد بن الأبرص" مثلا ، كما لا أجد حرجا في أن تأتي القصيدة بجذورها التراثية البنائية الأولى، أو تمتح من آبار تجديدات أبي تمام والمتنبي والمعري، لكني ـ قطعا ـ لست أسير الخيل والليل والبيداء، ولا سجين مِكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا، ولا تتوقف وصوفي عند (أيطلا ظبي وساقا نعامة)؛ فمحيطاتي ومشاكساتي البيئية تخلو تماما من هذه المثيرات، ولا يعوق هذا تقبل ذائقتي الصورة التفعيلية، بتجلياتها المختلفة، وإن كنت ـ قطعا أيضاـ لا أضع لحظتي الشعرية تحت أخيلة الأجيال التفعيلية الأولى، ولا أستسيغ السير على ما درجوا عليه من تصاوير وبنى، كما لم أقطع ـ ككثيرين من هواة القطعية المعرفية ـ بيني وبين القصيدة النثرية، لا يهمني التوقف عند إشكالية الاصطلاح؛ وتجاذبات النقدة حول تناقضية كلمتي الإسناد الإضافي أو النعتي: قصيدة النثر أو القصيدة النثرية، ولكنني ـ في الوقت ذاته ـ لست مستنسخا ما درج عليه النثريون من طرائق رأوها ـ بتحديدية صارمة ـ هي الصانعة لقصيدة النثر.

الشعر بإنسانيته لا يمكن حصاره في نسق، ولا تأطيره بالانشغال بمواضيع محدودة ، فلا بد له من فساحات تناسب دورانه الكوني وانشغال مبدعيه غالبا بالمطلق

لا شعر بلا حرية ، ولا شعر بلا تعدد ، ولا شعر بلا سعي لتأكيد إنسانية الإنسان، ومن ثم فإن إعلان "اليونسكو" يوما عالميا له لم يكن ليخرج عن تأكيد هذه الحرية والتعدد اللغوي والتعبير عن الإنسانية في تجلياتها العامة، دون أن يعني هذا مناقضة الهويات المحلية، ولعلي في هذا المقام أستعيد بعضا مما نشرته في مقالات عدة، عزفا على الوتر ذاته، وانحيازا لتحرير هذا الفن دائما من قبضات المسيّجين أورده لتأكيد الموقف النقدي القائم على التحرير الدائم للمعشوق الشعر من أيدي ساجنيه سابقين أو تالين :
"المؤكد أن وظيفة الشعر قد استجابت لما تقاذفته الأيام والعصور من تغيرات طرأت على مختلف جوانب الحياة، وليس في هذا ما يشير إلى انتفاء القيمة، وانعدام الأهمية بقدر ما فيه من تأكيد على الإيمان بالسيرورة التطويرية الإنسانية وإنجازاتها، فدور الشاعر لم يعد - كما استقر عبر قرون الشعر الأولى - التأريخ والسفارة، والقيام بدور وزير إعلام القبيلة، ومنادمة الملوك والرؤساء، وحفظ الذاكرة الوطنية، ولم تعد - في نظري - قضية الكتابة الشعرية وفق ما اصطلحه القدماء، أو ما تواضعوا عليه بـ "عمود الشعر"، وقضاياه وأغراضه المحددة هي الفاصلة بين الشاعر والمتشاعر، أو بين الشعر ومجاوراته من الفنون الإبداعية الأخرى؛ فالإيقاع غير الإيقاع، والصورة غير الصورة، بل إن اللغة ذاتها - على ثباتها النسبي - قد تعرضت، قطعا، لانتقالات دلالية وأسلوبية جعلت الكتابة الشعرية الحديثة في تجلياتها المتعاقبة نماذج مختلفة، رغم التقاطعات الموسيقية أو البلاغية، أو الغرضية، التي يمكن أن تضم حزمة من الكتابات تحت تصنيف واحد وفقا للذهنية الجدولية الفرزية".
"لا يعنينا الاندفاع الشكلاني، وتغير أدوات التعبير عن هذا الغامض الملتبس/الشعر، لكن ما نود أن نشير إليه هو أن المحاولات المتتابعة قد أخرجت - أو هي قد حاولت ونجحت إلى حد ما - الأيديولوجي إلى ما ورائية الهم الشعري، بمعنى تراجع الاهتمام بقضايا كان الاحتفاء بها، أو حتى ملامستها قديما يرفع من رتبة الشاعر، ويثبت قدميه في طين التأريخ الأدبي، لكن السائد الآن أن الترويج لإزاحة هموم الوطن والأرض وتغييب القضايا الكبرى ومنها الهوية العربية والإسلامية، وإفساح الطريق للهامشي واليومي والعادي المألوف، بل وأحيانا الداخلي جدا... يمثل حالة اقتراب حقيقية. على نحو ما يروج له أصحاب الكتابة بالجسد أو للجسد - من الشعر الحقيقي، وأنه لا ضرورة لدى الشاعر تحتم عليه التعرض للقضايا الكبرى وهموم الأوطان، بمعنى آخرـ وليس ذلك مرفوضا على إطلاقه - إخراج الجغرافي والتاريخي من الشعري، بمعنى أدق تحرير الشعر من انتماءاته الوطنية، وهذا في رأيي مكمن خطورة فادحة، فرغم انحيازي شخصيا إلى القول بإنسانية الإبداع، وخروج المبدع على الحيز الجغرافي المحدود إلى آفاق العالم الأرحب، إلا أن ذلك لا يعني التحلل من كل القيم المحلية والانعتاق من قضايا الوطن والهوية الوطنية، وإن كان هذا هو الشغل الشاغل للقائمين حاليا على صناعة المواطن "الكوزموبوليتاني" العولمي الجديد، وتدشين ما يسمى بالمواطنة العالمية التي قد تبدو مقبولة في حال تكافؤ قوى وتعادل مؤثرات جيوسياسية هنا أو هناك، لكن في ظل التفاوت الرهيب الذي يلف العالم تصبح المحاولات الدائبة لإذابة المواطنة وتسييح الهوية عبر المنجز الثقافي إحدى آليات التغيير التي لا تتوازن فيها القوى، ومن ثم فإن خطورة محو القضية الوطنية لحساب قضية القطب الأقوى لا تمثل مواطنة عالمية، ولكن إخضاعا وتكريسا لهيمنة ثقافية وإبداعية للطرف الغالب على المغلوبين، بالتعبير الخلدوني، وهو ما ينعكس على كل أشكال التعبير ومنها الشعر الذي يمثل لدى العربي أحد سياجات الهوية الثقافية، ومن ثم فإن غياب الهم الوطني والانشغال بالذات وقضاياها الهامشية، رغم تقاطعات هنا أو هناك بين هذه القضايا العامة بدرجة أو بأخرى ظاهرة مقلقة، وجديرة بالملاحقة والمواجهة.

الأدب الإنساني لا شك أنه أفضل الآداب بقدرته على اختراق الحدود الزمانية والمكانية، لكن هذه الإنسانية العالية - في نظري - لن تتحقق لأي أدب إن يتحرر من لسانه، فكما فشلت كل المحاولات التي أنفق فيها أصحابها ردحا طويلا من الزمن لخلق أو تكوين لغة تخاطب عالمية واحدة وليست آخرها «الاسبرانتو» تظل محاولات توحيد اللسان الأدبي ضربا من المستحيل، فكل إبداع يتم داخل لغة، ومن هنا فإن سمات خاصة لا بد باقية مائزة بين الهويات الثقافية التي تسعى - جاهدة - ماكينة الإعلام الفضائياتي، وشبكة «بيل غيتس» ورفاقه الإلكترونيين لإذابتها بالحامض «الكوزموبوليتاني» الذي لن يفلح - مهما اجتهدت الماكينة ومشغلوها - في القضاء على خصوصيات الشعوب ومحو الهويات، وتذويب الفوارق بين الألسنة والألوان، لأن اختلافها وتنوعها آية من آيات الخالق العظيم، ووجودها تأكيد لهذا التنوع الذي يحقق درجة عالية من التفاعل الإنساني بدلا من «المثلية» الإبداعية - على ما في هذا التوصيف من قسوة، الأمر الذي يحتم علينـــا الانتباه، وألا تخدعنا «الكليبات النقدية» والأفكار سابقة التجهيز، فنزيح عن إبداعاتنا عموما، وشعرنا خصوصا - قضايانا الكبرى، ومن ثم يزيحنا المتلقون إلى حيث فضاء الحرام الشعري بعد أن ارتضينا - دون وعي - الاغتسال بماء العولمة الثقافية، خلاصا مما يظن أنه أدران الهويات الخاصة لأوطاننا ".
وعلى هذا ، ودون أن يظن القارئ أن بموقفي ميلا إلى التعزيل، واعتماد الحيوز الجغرافية فواصل بين الإنسان وأخيه في البشرية، فإني فوق اختلافي مع هذا الظن، حتما، أشير إلى أنه ومنذ سنوات قليلة جمعني مهرجان دولي بشعراء من خمس عشرة دولة، وما أحسست، رغم التفاوتات الحضارية والمدنية بين الدول المشاركة، بأن ثمة فارقا إنسانيا، وبدا الأمر وكأنّ الشعراء المشاركين إنسان ذو ملامح واحدة لم تفلح الأزياء والألسنة في إخفائها، ورغم أن بعض المعاني بهتت ظلالها جراء الاختلاف اللغوى إلا أن المشترك الإنساني العام تجلى للمتلقين العاديين فضلا عن إحساس المبدعين المؤكد به .
ويظل التعدد الذي أشار إليه إعلان "اليونسكو" دليلا على احترام تفاوت الهويات واختلاف الخصائص المحلية .
الشعر بإنسانيته لا يمكن حصاره في نسق، ولا تأطيره بالانشغال بمواضيع محدودة ، فلا بد له من فساحات تناسب دورانه الكوني وانشغال مبدعيه غالبا بالمطلق، لكنه للأسف تعرض كثيرا وتعرض مبدعوه لمحن التكفير، والاغتيال النقدي، والمعنوي العام لمن يحاول المروق من "كليشيهات" الثقافة الشعرية العربية، بل وصل الأمر إلى الحكم على شعراء بالإعدام، استنادا إلى جهالات في تأويل صورة شعرية، خارج محفوظات المؤوّل، وربما لحسابات خارج دائرة النقد .
في يومه العالمي، ليس لي إلا أن أجدد التاكيد على رفضي هيمنة السياسي أو الفكر التكفيري على كل من يحاول التفكير خارج صندوق المحفوظات المريح لأصحابه فقط .