قراءة في أمواج عبدالله إبراهيم

هوية سردية تحكمها حركة العبور والتنقل، لا تكف عن توليد الفوارق والاختلاف في العلاقة مع الذات والآخر والعالم.
ذات تشهد على نفسها وعلى الآخرين وعلى المجتمع في علاقته بالسلطة في تحولاتهما الرهيبة والمشحونة بالكثير من العنف الرمزي والمادي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي
العلاقة بين السارد وقصته في وقائعها وأحداثها

أمواج كتابة أدبية تعلن عن نفسها انطلاقا من عنوانها "سيرة عراقية"، كما أنها تكرر هذا الميثاق في وجه القارئ على صفحاتها من حين لآخر. لكنها توضح أيضا أن لا شيء معطى وجاهز ومحسوم بشكل نهائي، بل هي منخرطة في سيرورة بناء لا ينتهي من الحذف والتعديل والإضافة  لمدة زمنية وصلت الى عقد ونصف، وهي تفكر نفسها في حوار صيرورة لا تنتهي بنهاية هذا النص، حيث ستظل تكذب نفسها باستمرار، ليس بالمعنى الأخلاقي، بل بالمعنى النقدي حين يفكر الأدب في نفسه، فيما انتهت إليه – أمواج - من خلاصات وأفكار ورؤى ومنجز تخييلي. 
ذاك طموحها في الحفر والتنقيب للقبض على الأصول أو الجذور الملعونة التي كانت أرضية شرعية للذبح الحلال للشعب والتفكيك للوطن، وهي جذور لا تزال تحفر أنيابها الوحشية في حاضر العراق، مانعة انطلاقته الرحبة والإنسانية في الوجود والانفتاح على القيم الإنسانية الكونية، بما يفيد نوعا من الهجرة إلى الإنسانية. 
هكذا تمارس أمواج كسيرة عراقية شغبها وشغفها كمنجز أدبي، وهي تتأمل مظاهر تحولات وتطورات تمس الوعي في حركة تكونه وتطوره في النظر والمراجعة النقدية مع الرغبة في الاستيعاب و التجاوز. 
إنها هوية سردية تحكمها حركة العبور والتنقل، وهي لا تكف عن توليد الفوارق والاختلاف في العلاقة مع الذات والآخر والعالم، حيث يصعب جدا التأريخ للذات والآخر والمجتمع وللواقع الاجتماعي السياسي في عنف تمرحله التاريخي في ظل سلطة الطغيان للنظام السياسي المطلق والشمولي في ترسيخه لواقع السيطرة والتسلط المقنع بالقانون الطبيعي القدري المفارق للشرط التاريخي البشري، وما يؤطره من صراعات وتناقضات مادية ورمزية. 
إننا أمام ذات ساردة تؤرخ لنفسها والآخر والمجتمع وللعنف السياسي للطاغية في ترابط جد معقد لسياقات كثيرة أسرية، اجتماعية، سياسية، ثقافية...، في علاقة الذات مع نفسها وبوسطها الأسري وضمن العلاقات الاجتماعية، وفي المدرسة، أو خارجها في مختلف أشكال التواصل والتفاعل والحضور الفاعل في سيرورة الفعل الثقافي والاجتماعي والتربوي والمهني والفكري والإبداعي.
ذات تشهد على نفسها وعلى الآخرين وعلى المجتمع في علاقته بالسلطة في تحولاتهما الرهيبة والمشحونة بالكثير من العنف الرمزي والمادي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، المؤطر بإيديولوجية الموت الرمزي من خلال رعب قوة القمع والترهيب والخنوع والخضوع والذل والمهانة، في سحق كينونة الإنسان، أو الموت الصريح  في الزجّ بالشعب داخل مستنقع الحروب المتتالية داخليا ومع دول الجوار المسنودة إقليميا ودوليا بالوسائل والعتاد الحربي المتطور في التكنولوجيا العسكرية فتكا وتدميرا للإنسان والعمران وكل المحيط البيئي.
تعتبر أمواج تجربة سيرة مؤلمة أولا في عيشها كقدر وجودي اجتماعي سياسي تلبس مظهر القانون الطبيعي في قهر وهدر الإنسان ونهب الثروات وسحق الفكر، وكل الرأسمال الاجتماعي والحضاري التاريخي في التنوع والتعدد كمكونات سوسيولوجية ثقافية تعايشت عبر قرون في انتمائها للأرض والبلد الواحد في نوع من الثراء الخصب، وفي تشويه الوجدان والذاكرة والتاريخ والانتماء إلى درجة توليد الهمجية والتوحش وحروب الهويات القاتلة داخليا بين مختلف مكونات الشعب الواحد: العرقية، الدينية، المذهبية، والطائفية...، التي لم تكن تتعرف في ماضيها العريق والحديث على ذاتها إلا كعراق. وثانيا في كتابتها بلغة أدبية جميلة لها خصائصها المعنوية والدلالية والفكرية، كما لها منطقها وآليات اشتغالها، الشيء الذي يحقق مسافات بين المتن كما هو في الواقع التاريخي كوقائع وأحداث وبين حضورها في الكتابة كمبنى ورؤية للعالم تبلور بنية دالة تبعا لسجل ثقافي وجمالي وزاوية نظر السارد في إدراك المعنى وصياغة تأويل المتن على مستوى المبنى أو الخطاب. 
هكذا هي العلاقة بين السارد وقصته في وقائعها وأحداثها، حيث يستحيل الحديث عن الهوية والتطابق بين الكاتب والسارد والتجربة المعاشة، التي تقرأها عين فكرية نقدية وجمالية بوعي آخر مختلف ومتناقض مع مختلف أشكال الوعي التي ميزت التجربة في سيرورة تكونها وتطورها الاجتماعي والثقافي والسياسي في واقع حي تاريخي لا تكف الممارسة الاجتماعية في صراعاتها وتناقضاتها وعلاقاتها، ودلالاتها، عن تشكيله وإعادة بنائه. فالسارد ليس كائنا ثابتا جاهزا وناجزا سواء في ماضيه أو في لحظة ولادته السردية ككتابة تتوسط التجربة، ومن ثمة فهو وليد سيرورات ومسارات متشابكة ومعقدة في نشأتها وتطورها، وفي مدها وجزرها المرعب والرهيب، المفعم بالأحزان والآلام والمآسي المروعة، وأيضا في اختلاس متعها الحية والنشيطة النابعة من مثلث جدل القراءة والكتابة والمرأة، مثلث يشتغل كمنارات محفزة ومضيئة ضد اليأس والحلكة المعتمة التي أسدلت الدكتاتورية المجنونة والعمياء ستارها، وهي تسحق الإنسان كمشاريع وجودية تأمل الكينونة والصيرورة.
نتعرف على السارد من خلال توسط الكتابة وهو يعيش طفولة صعبة أقدارها التراجيدية التي جعلته يتجرع تجارب ألم الحرمان العاطفي ثم عذابات الفقدان للوالدين، بشكل فجائي في رحيل الأب الغائب على مستوى الوجدان العاطفي، وبشكل بطيء معذب وقاتل في رحيل الأم بعد تجربة مرض مؤلمة وهي تخوض حربا شرسة ضد السرطان بقوى غير متكافئة كما لو أن الطاغية حل بالذات ينخرها من الداخل، تجربة تولد عذابات نفسية وجسدية للأم ولأطفالها حيث المرض أتى على فرديتها الذاتية وهويتها الجسدية والشخصية كالنار الحارقة تلتهم ببطء الأم والأطفال دون شفقة ولا رحمة وهم يشهدون وشاهدون على موت ليس هو الموت، حيث المرض حال بين الأم وهويتها وجعلها غريبة عن نفسها في حالة ليست كما هي، مما ضاعف من حرقة العذاب لهم جميعا. 

سيرة تقدم في شكلها الأدبي إضاءة نموذجية للتحليل النقدي الذي قدمه مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور، والإنسان المهدور"

من هذا المخاض أو الفرن الجهنمي خرج الطفل رجلا يبتغي عالم الرجال، كما لو حكم عليه أن يتخلى عن طفولته. فتوالت على السارد الكثير من التجارب المؤلمة التي لم تنل من إرادته في أن يكون ويصير رغم غموض المسارات المرعبة التي كان يقذف فيها دون اختياره وهو يتقلب من محنة لأخرى في بحثه عن الذات الحرة المستقلة التي تمتلك فرديتها وقدرتها على تحقيق الذات برغبة جامحة تجمع بين اللذة والألم. هكذا نتعرف عليه صبورا متحملا كل المشقة والصعاب، مجدا ومثابرا لأجل خلق شروط  النجاح وتحقيق ما يخامر النفس من أوهام وأحلام. لذلك انخرط في مختلف أشكال الفعل المدرسي إلى جانب الأنشطة الموازية الفنية والشعرية والمسرحية، دون ملل ولا كلل يدفع به إلى الرجوع للوراء، لأن إرادة قوية وعميقة الجذور في داخل الطفل تشحذ رغبته وتقوي إصراره وعزيمته على الحضور الفاعل مع ووسط الآخرين في أن يكون ويصير على الرغم من أنه لا يعرف ماذا يريد، وتلك حالة طبيعية في البحث عن الذات.
سيرة تحركها قناعة الاعتراف بكل ما عاشته ذات السارد في مختلف محطات حياته دون مراوغة ولا نية له في التستر كما قال على الكبوات والأخطاء، والتقدير السيئ والساذج المزيف للواقع في تناقضاته وصراعاته على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. سيرة تقرأ تجاربها وصيرورتها ومسارات تكون رؤيتها للذات والآخرين والعالم، وهي تشكل رؤية لعالم الحياة والكينونة، حيث كل شيء قابل للتمحيص والمراجعة والنقد دون خوف في مرحلتي طفولتها وشبابها من الإطار المعرفي الأيديولوجي السائد سواء في وجوهه التقليدية العرقية والقبلية والطائفية والدينية المذهبية، أو في وجوهه الأيديولوجية القومية والوطنية في صورتها الاختزالية للقيم الثقافية والاجتماعية وللانتماء والهوية الوجودية، بواسطة الرؤية الوحيدة والأحادية بلغتها الإطلاقية التي لا تقبل الشك والحوار والتفكير وإثارة السؤال، وهي لا تقبل التنوع والتعدد والاختلاف باسم الوحدة الأقرب إلى الواحدية الدينية التي تعمل على وصم كل تنوع واختلاف خيانة وطنية وقومية وخدشا في قداسة الطاغية الذي لا يقبل الشرك حيث السمع والطاعة والتنفيذ. 
وكم من الرؤوس قطفت إعداما لأسئلتها واختلافها ونظرتها المغايرة لما يحدث ويجري من ظلم وبؤس وقهر ومآسي وتفكك لنسيج المجتمع وهدر للإنسان والخيرات. العلاقة العمودية هي المسيطرة بين القائد والرعية، بين السيد والعبد، بين المسؤول وعامة الناس، بين الكبير والصغير، بين الرجل والمرأة. علاقات اجتماعية تحكمها وتضبط آليات اشتغالها أخلاقيات السمع والطاعة والخنوع والقهر والاسترقاق الاجتماعي والثقافي والسياسي والوجودي.
سيرة تبين بوضوح المعاناة التي تورط فيها السارد وهو يكافح من أجل نيل حقه في التعليم ومواصلة دراسته الجامعية، حيث تحول إلى مجرد دمية تتقاذفها فجائية أقدار الواقع السياسي الاجتماعي للدكتاتوري، وهي تتلاعب بمستقبل أبنائها الاكفاء ، وتعلي من شأن ثقافة الخوف والولاء وتجهز على ثقافة الجد والانجاز. وأمام الأبواب المسدودة والفرص المنعدمة أصر السارد على خوض تجربة البعد عن الوطن متجها إلى جامعات مصر التي لم تحتضنه طويلا إذ سرعان ما عاد ليجد نفسه مرعوبا بين أمواج واقع سلطوي يريد لفظه في الوقت الذي ظل السارد متشبثا بصخرة العناد والتحدي، فحمل مشاق السفر والتباس توجهات واختيارات التعلم والتحصيل العلمي الأكاديمي، من الموصل إلى البصرة ثم من هناك إلى بغداد. 
هكذا هي الأنظمة الطغيانية تتحايل على التناقضات المجتمعية والممارسات الاجتماعية والسياسية بآلية أيديولوجية تجعل الواقع الحي يتخذ مظهر الاعتباط والاقدار الطبيعية بحيث يتخفى ويتستر العنف السياسي التسلطي والقهر الاجتماعي الاقتصادي والثقافي والتربوي، متحكما في حياة الناس ومؤبدا لسيطرته في تحديد وتقرير مصير الأفراد والجماعات والمجتمع والوطن. وهي آلية نفسية اجتماعية سياسية يفرضها الطاغية كنظام سياسي للتحكم في مستقبل الشعب والوطن. 
قدم لنا السارد تشخيصا دقيقا لجذور ومظاهر القهر والاعتباط في الفضاء المدرسي والثقافي والاجتماعي والسياسي، وهو يقدم لوحة رائعة في متعتها الأدبية كسيرة تتوخى الاعتراف والتمثيل السردي لمسارات الذات، وصيرورة حركية الواقع، لمحاولة تجميع الكثير من العناصر والسياقات والمعطيات التي تسمح بإضاءة ما يحدث الآن في العراق وأي أفق أو آفاق تنتظر البلد ومكوناته السوسيولوجية والثقافية في الاختيار بين التفكك والتشظي والتشرذم المشحون بالضغينة والحروب، أو في الحفاظ على مقومات المجتمع والبلد، وتأهيل النسيج والرأسمال الاجتماعي. إنها سيرة تقدم في شكلها الأدبي إضاءة نموذجية للتحليل النقدي الذي قدمه مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور، والإنسان المهدور".
سيرة لا تخشى مواجهة وتعرية عوراتها وتسليط الضوء على ظلالها حيث تورط السارد في غياهب الوعي الزائف بسبب قوة وسطوة خلفيات حجاب الزيف السياسي والثقافي الأيديولوجي للنظام الاستبدادي الشمولي الذي حال بينه وبين الوعي الحقيقي للوضع الذي يعيشه وما نتج عن ذلك من رؤية أيديولوجية ضيقة للذات والآخرين والعالم، وللواقع الاجتماعي السياسي في تناقضاته وتوتراته وصراعاته الداخلية، وفي الحروب الخارجية مع دول الجوار، أو في التغطية على المسخ الذي طال المجتمع في قيمه الثقافية والاجتماعية، خاصة على مستوى الوجدان والذاكرة والهوية والانتماء.