قطب متخفياً في «استحالة الدولة الإسلامية»

الطاعة السياسية من منطلق ديني تعني استبداد مقدس

يقود كتاب وائل حلاق المهم والعميق The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity’s Moral Predicament ( الدولة المستحيلة: الإسلام، السياسة، والمأزق الأخلاقي للحداثة) إلى خلاصات ونتائج عدة، ويعيد فتح أبواب النقاش حول الدين والسياسة، بل يخلط الأوراق في شكل مثير. والأهم أيضاً أن كثيراً مما يطرحه الكتاب جاء على غير ما هدف إليه الكاتب، الضليع في دراسات القانون الإسلامي، والمطلع باقتدار على سجالات الفكر الغربي الحداثوي في مسائل السياسة، والأخلاق، والدولة، والقانون.

الأطروحة المركزية في الكتاب وكما يسطرها حلاق بوضوح في المقدمة، تقول باستحالة تحقق فكرة الدولة الإسلامية، وأن هذه الدولة بمدلولاتها وصيغتها الحديثة لم توجد أصلاً في التاريخ الإسلامي. وما شهده ذلك التاريخ هو أنماط من «الحكم الإسلامي» الذي تأسس على منطلقات ومبادئ وسياسات وغايات (أخلاقية جزءاً وكلاً) تختلف كلياً وجذرياً عن منطلقات ومبادئ وغايات وسياسات «الدولة الحديثة» (المادية جزءاً وكلاً).

يبني حلاق معمارين منفصلين تماماً: الفكر الغربي ومصادره ومنظومته الفلسفية الحداثية القائمة على انعتاق الإنسان من السلطات الدينية، وعلى إرادة تغلبه على الطبيعة، وإيمانه المادي بالعلم والتطور، والفكر الإسلامي ومصادره ومنظومته الأخلاقية القائمة على الميتافيزقيا والشريعة، وإرادة تعبد الإنسان خالقه من طريق ممارسته حياته واجتماعه وسياسته وفق التعاليم الدينية المتساوقة ورؤية كونية للإنسان والحياة الراهنة والأخروية. لا يمكن أن يتصالح هذان المعماران كما نستشف بوضوح من الكتاب، لذلك فمقولة الشاعر الإنكليزي كبلنغ في أواخر القرن التاسع عشر ومن موقع ازدرائي متعال إزاء الشرق بأن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» تتأكد وتتأبد هنا.

تفكيك مفهوم الدولة الحديثة

يتناول حلاق في كتابه «الدولة الحديثة» وأسسها ومنطلقاتها، و«الحكم الإسلامي» وأسسه منطلقاته ويفكك نظام «الدولة الحديثة» ومفرداتها الأولية ليثبت عدم إنسانيتها وماديتها وجبروتها الطاغي، وتحويلها ذاتها إلى ذات مقدسة علوية بقاؤها هو الغاية النهائية، ذلك لا يكون إلا على حساب «مواطنها» التابع والخادم لها.

لا يترك حلاق مقولة صلبة من المقولات الحداثية التي أعلت من شأن القوة المادية وجسدتها في الدولة إلا وضمّنها نقاشه. وفي قلب ذلك النقاش، استهدف فكرة السيادة التي تستند إليها الدولة وتعتبرها أقنومها المقدس الذي يجب أن لا يُمس. حشد حلاق في إدارة معركته ضد الحداثة ودولتها أقسى نقاد الحداثة الغربيين، متجاوزاً «نقد ما بعد الحداثة» إلى ما هو خارجها تماماً، إلى طرح بديل مختلف كلياً وجذرياً لا يجامل في لفظه الحداثة وكل مشروعها جانباً، وهو بديل «الحكم الإسلامي».

دولة الحداثة بالنسبة إلى حلاق هي أصل الشرور الإنسانية الحديثة، فهي مستبدة جوهرياً وإن زعمت أنها ديموقراطية ومساواتية، وسلطاتها التشريعية والتنفيذية متماهية وإن زعمت بوجود فصل للسلطات في آلياتها، وهي في نهاية المطاف متعالية على الإنسان «مواطنها وتابعها» ومستعدة لطحنه من أجل بقائها من خلال مفهوم «التضحية من أجل الوطن». والنخب الحاكمة في الدولة الحديثة تولدت من وسط الناس، من المواطنين، ولذلك اضطرت هذه النخب للبقاء على تواصل مستمر مع الناس تعزيزاً لشرعية وجودها في الحكم، وعن ذلك تولدت آليات الديموقراطية والانتخاب والتمثيل، ثم محاولة تقسيم السلطة على فروع ثلاثة مستقلة عن بعضها (وهي محاولة فشلت برأي حلاق).

في المقابل، في الحكم الإسلامي، ليس هناك شيء اسمه «وطن» تتوجب التضحية من أجله، وليس هناك دولة لها الحق أن تفرض على الأفراد ما تريد. ما يوجد في الفضاء الإسلامي هو إدارة لأحكام دينية مُسبقة التشريع لا دخل للأفراد أو أي سلطة بشرية فيها، يظل الفرد فيها حراً وطليقاً من أية سلطة مفروضة كتلك التي تفرضها «الدولة الحديثة» (لكنه خاضع للسلطة الأخلاقية للشريعة).

السلطة التشريعية في الحكم الإسلامي هي بيد الله، أما القضاة والفقهاء والمفسرون فهم مجرد أداة لتوصيل وتفسير أحكام تلك السلطة، ولا يملك أي كان حتى الحاكم المسلم أو الخليفة أن يتدخل في تلك الأحكام، خصوصاً أن سلطة القضاة والفقهاء قوية ومستقلة عن الحكام. وعززت تلك الاستقلالية مسألة كون الخلفاء والأمراء في معظم فترات التاريخ الإسلامي غرباء عن السواد الأعظم من الناس (مغول، مماليك، فرس ...)، الأمر الذي لم يوجد أية صلات عضوية بينهم وبين المحكومين، وأبقاهم، أي الحكام، معزولين في قصورهم وسرادق حكمهم، فيما القضاة والفقهاء والعلماء يقومون بدور الجسر بينهم وبين المحكومين. هذا التوزيع، أو المقايضة في الأدوار، حفظ «استقلال العامة» عن الحكام، واستقلال القضاة عن الحكام والمحكومين، وفق ما يرى حلاق.

الدولة الحديثة تتناقض جوهرياً وفي شكل لا يمكن مصالحته مع الحكم الإسلامي، لذلك يستحيل قيام «دولة إسلامية»، لأن مكونات وأسس الدولة من سيادة تحديداً، ومواطنة، ومأسسة مادية وتشريعية تتناقض مع جوهر الحكم الإسلامي الذي يعتمد على الأخلاق والشريعة. هذه هي المقولة الأساسية، ولو بابتسار، لكتاب وائل حلاق «استحالة الدولة الإسلامية» والذي ناقشه الجزء الأول من هذه المقاربة، وهو النقاش الذي انتهى بطرح عدد من الأسئلة أهمها يتعلق باللقاء المُدهش، وغير المقصود بطبيعة الحال، بين طروحات حلاق في كتابه وطروحات سيد قطب في تنظيره للإسلاموية الحركية المعاصرة (وتحديداً في «معالم في الطريق» وتفسير «في ظلال القرآن»).

الدولة المستحيلة

ثمة فرضية صارمة في نص حلاق تكاد تنفي بالمطلق وجود أي بعد أخلاقي او قيمي يستحق ان يُذكر في تجربة «الدولة الحديثة»، وهي فرضية غير موضوعية وغير تاريخية.

حلاق لا يبتعد كثيراً عن تصور «الحاكمية» القطبي إذ يرى أن اصل الحكم الإسلامي هو التسليم المطلق للشريعة المُتعالية المُصمتة، وأن كل أنماط وصور الدولة الحديثة تنازع الشريعة مركزيتها في مجال الاجتماع الإسلامي وترسيمه وفق الأخلاقوية الإسلاموية. الشريعة تقوم على نظام أخلاقي متكامل يتسق مع رؤية إلهية للحياة والكون والآخرة. بينما «الدولة الحديثة» تقوم على تصور براغماتي مادي يعلي من شأن الإنسان ويموضعه في مكان الإله، على رغم أن هذه الدولة نفسها تتأله على الفرد الذي خلقها.

عند قطب وحلاق لا يتبقى للسياسيين والعلماء والفقهاء والقضاة إلا لعب دور الوسيط بين النص المُشرع والناس. كلاهما يتفادى قراءة التاريخ الإسلامي الذي تواصلت فيه مراحل خلافية ودموية بسب الصراع على هذا الدور تحديداً، اي المنافسة على امتلاك «التفسير الصحيح» أو «النقي» او «السلفي» للنص المُشرع. ذلك الصراع هو الذي حدد مسارات قرون طويلة من التسيس والاجتماع الإسلامي، وليس التغني بالنموذج المثالي الذي يتخيله حلاق. معنى ذلك تاريخياً وعملياً ان «الدولة الدينية» التي ينفي قطب وحلاق وجودها في التاريخ الإسلامي كما وجدت في التاريخ المسيحي حيث زعم الملوك النطق والحكم باسم الإله، وُجدت فعلاً عند المسلمين لكن على مستوى أقل من مستوى الادعاء الأوروبي. سيطر الحكامُ والخلفاء المسلمون على التيار الأعرض من المفسرين والقضاة والعلماء والفقهاء ودفعوهم لتبني وترويج تفسيرات محددة ومدارس فقهية معينة وفق السياق والزمن والظروف السياسية، أسها تبرير الشرعية الدينية للحكام، ووجوب طاعة الناس لهم من منطلق ديني.

نحن إذن بين استحالتين إسلاميتين وحداثة تقف على تخوم فشلهما بكونها النجاح الوحيد.

خالد الحروب

ملخص منشور قنطرة الألماني

كتاب \"الدولة المستحيلة: الإسلام، السياسة، والمأزق الأخلاقي للحداثة\"