"قمل العانة" .. حين تفكر الرواية في نفسها

رواية غسان الجباعي تؤسس وجودها الفني ككتابة إبداعية جمالية من خلال التخييل، والذاكرة، واستغوار خبايا الذات المقهورة المقموعة.
الرواية تقدم التمزق والضياع الوجودي والإنساني الذي يرزح تحت عبء وطأته الشعب السوري
قراءة تأويلية للواقع الحي، تبعا لرؤية فنية تقليدية

الروايات الجميلة ليست هي التي تشحنك بالغضب والعنف، والتحريض الأيديولوجي الذي يكرس اغتيال العقل النقدي، بل إنها الرواية التي تمنحك فرصة عيش الصيرورة وأنت ترى نفسك تتغير في الرؤية ونمط التفكير وأفق التوقع والانتظار، كفاعل ومشارك في صياغة القطب الفني والجمالي للرواية، حاضرا في الصياغة والتكوين والتكون، تبعا لسيرورة فنية لا تراهن على قراءة تأويلية تفسيرية، بلغة تقريرية مسطحة وجافة لما تعتقده الواقع. 
رواية "قمل العانة" تنقض هذا الميثاق السردي التقليدي وتتخطى مرآويته الفجة، لتورط القارئ في جمالية التلقي، عبر سيرورة إرباك لا تنتهي عند معاني محددة جاهزة ونهائية. 
 1– أفق الرواية يخيب ويغير أفق القارئ
رواية "قمل العانة" لغسان الجباعي تخيب أفق القارئ التقليدي الذي تعود على بعض روايات أدب السجون التقريرية المباشرة في لغتها إلى حد ادعاء نقل التجربة الواقعية التي عاشتها الشخصيات النمطية للرواية في صراعها السياسي مع المؤسسة السجنية في شخص الجلاد. وهي تعتمد الوصف المرجعي المرتبط بمعطيات الواقع الوضعية الميدانية. كما أنها في آلية اشتغالها تنهض على ما يسمى قصة الأطروحة بمعناها الأيديولوجي المباشر في التعبير عن الموقف السياسي، تبعا للتسلسل المنطقي لمستوى القصة، وجاهزية مستوى الخطاب في صناعته للتحولات والصراعات، مما يعكس نوعا من التماسك الهش المنعكس سلبيا على البنية الدرامية للرواية. 

أنا كاتب متفائل، أحب إشعال الشموع. كلما قتلوا شاعرا ورثت دمه، وكلما قتلوا امرأة ورثت رحمها، وكلما قتلوا طفلا ورثت براءته وألعابه

كما لو أننا أمام قراءة تأويلية للواقع الحي، تبعا لرؤية فنية تقليدية لا تتجاوز منطق التفسير الساذج المبتذل للتناقضات المجتمعية. رواية "قمل العانة" ليست كذلك، حيث تنتهك الخصائص المعنوية للكتابة الأدبية النمطية التي تعتمد مقاربة المحاكاة المبتذلة للواقع. فهي تخيب أفق القارئ الذي تعود على مثل هذه الروايات، الواضحة السيرورة من البداية إلى النهاية. إذ يجد نفسه أمام تحولات عنيفة مرعبة في فجائيتها، وقطائع تكسر نمطية الحكي وتسلسل الزمن، حيث لا وجود لتناغم زمني يدفع الحبكة إلى الأمام. وليست هناك شخصيات جاهزة، ومشحونة بتصورات وقناعات أيديولوجية، تبعا لرؤى للعالم محددة مسبقا. 
ولغة "قمل العانة" ليست شفافة، ولا تهدف إلى تسجيل واقع معطى جاهز للنقل في بنيات مقبولة ومتقبلة. إنها لا تحلم أن تكون مرآة للواقع، ولا تحمل تصورات ذات مضمون أيديولوجي مباشر. إنها تضرب عرض الحائط بقواعد الكتابة الروائية التقليدية التي سادت طويلا، ولم يعد لها مبرر موضوعي أو ذاتي للاستمرار. هكذا يسعى أفق رواية "قمل العانة" إلى تغيير أفق القارئ من خلال الحسم مع اللغة العملية المباشرة، والتخلص من تقريريتها، بالاشتغال على اللغة الشعرية المكثفة في دلالاتها المعنوية والفكرية المحايثة لنسيج الرواية ككتابة أدبية، تؤسس وجودها الفني على الخاصية الجمالية والخيال. والعمل أيضا على فك الارتباط بين الشخصية الروائية والشخص الإنساني، وبين التسجيل الأيديولوجي للواقع، ومحاولة الارتباط بالذات والانخراط في عوالمها كمقاربة وإنصات متجذر في عمقه لمحن وآلام الوطن والشعب. 
رواية "قمل العانة" من خلال التجريب والتخييل تورطنا في واقع متخيل، يعتمد على المنطق الداخلي للكتابة في بناء القوة والكثافة والانسجام، وتفعيل التوتر الفني إلى درجة يشعر القارئ أنه إزاء واقع أكثر واقعية من الواقع المباشر في سطحيته المألوفة. 
تقحم الرواية القارئ في لعبة اختراق الواقع لرؤية الاحتمالات والافتراضات والمسارات الممكنة. ومتن القصة في ذلك يجمع بين المؤلف/ السارد كجسد وذاكرة موشومين بسوط التعذيب وحرقة الأسئلة، لهما آلامهما وعذاباتهما، استيهاماتهما وهذياناتهما، أفراحهما أتراحهما. ونفاجأ كذلك بالوصف المتجاوز للمعطيات الوضعية المحدودة السقف والأبعاد، إلى الانفتاح على متواليات من الإدراكات، واشتغال الحواس، والإحساسات البصرية التي تؤسسها ثقافة فنية جمالية قادرة على التسامي والتخطي لجراحات الحياة في اشتغالها العاري من أية قيمة إنسانية أمام وحش الشر السياسي للجنرال وزبانيته ونظامه السياسي.
وخلال سيرورة القراءة، نكتشف من خلال التشظي والقطائع والانتهاك للتوالي الزمني أو التتابع المنطقي، وأيضا من خلال اختراق سطح الواقع، بالإضافة إلى كل ما أشرنا إليه سابقا من كسر لنمطية اللغة والوصف والسرد وأحادية الرؤية، نكتشف تشكل فنيا وجماليا البنية النصية الشاملة للرواية، بواسطة تتابع متواليات سردية لا تؤدي كل منها إلى الأخرى، ولا يفسر بعضها بعضا، بقدر ما تهدف على مستوى الخطاب إلى خلخلة مبدأ التماسك المنطقي، وبناء شكل روائي عبارة عن لوحات فنية رائعة، لا يسوغ تتابعها أية علاقة منطقية. 
إننا أمام سرد إشكالي بامتياز كبير لا يمنح نفسه بسهولة تقريرية لأفق انتظار تقليدي أعياه العجز المتعلم للمألوف والسائد، بل من خلال زعزعة الإدراك وتحفيز الحواس وإثارتها من خلال آليات التموج والارتباك والاختراق للمألوف. وهذا ما يولد نوعا من الالتباس لكون كل مقطع، مشهد، واقعة أو لوحة، كل هذا يأخذ شكل نقطة انطلاق، الشيء الذي يجعلنا أمام متواليات سردية متعددة، تطبعها عوالم كافكاوية مشحونة بالأحلام والهذيانات والتهيؤات الأقرب إلى الهلوسات القهرية. 
ويمكن أن نقول في الأخير إن الزمن الروائي في تفجره، يشبه مستنقعا راكدا آسنا، أو قل إنه يشبه "المطوى" في الرواية حيث استلقى "جفان" على قفاه، لكنه مطوى  يحتضن في أحشاء عمقه تحولات وتقلبات وتحللات سريعة. هكذا هي رواية الذات الفردية وهي تعلن عن زمنها الداخلي كحياة فردية غاية في السرية، لشخصيات تحقق وجودها وتعبر عن أناها النصية ككتابة إبداعية لا تتوخى التصريح الأيديولوجي المباشر عن القناعات الأيديولوجية، بل تورط القارئ في إشكالية فك لغز الكتابة كشكل روائي، وبالتالي التعرف على منطق الذاكرة والتخييل في الاشتغال في النص، إلى جانب دفع القارئ للعمل على اكتشاف منطق اللعبة السردية الملتبسة في تموجاتها، وبالتالي جمع كل مكونات البنية الدرامية المتشظية كأشلاء. 

novel
متفائل بعمق، على الرغم من هزيمتي وانحساري

إنها رواية تؤسس وجودها الفني ككتابة إبداعية جمالية من خلال التخييل، والذاكرة، واستغوار خبايا الذات المقهورة المقموعة، بطريقة يترابط فيها بشكل جدلي تشكل الواقع في النص في اللحظة نفسها التي تعرف تكون وتطور سيرورة تشكل النص.
وفي هذا الارباك للقارئ يعمل أفق الرواية على تغيير أفق القارئ.
2 -  حين تفكر الرواية في نفسها
"لم يكن الأدب أبدا يفكر في نفسه… بحيث يكون في آن واحد موضوعا روائيا وموضوعا مرئيا. كان يتكلم دون أن يكلم نفسه. وبعد ذلك… بدأ الأدب يعي كيانه المزدوج، أي كونه موضوعا ورؤية لهذا الموضوع، خطابا وخطابا لهذا الخطاب، أدبا - موضوعا وميتا – أدب". رولان بارت
بناء على ما سبق نفهم لماذا اتخذت الرواية نفسها كموضوع للتفكير، فهي قد وعت طبيعتها، قانونها الداخلي ومنطق آليات اشتغالها ككتابة إبداعية للواقع، وليس كأداة إبادية إيديولوجية أو أمنية للواقع. لهذا منذ البداية نكتشف بأن الرواية تحاور نفسها، حيث لم يكن ممكنا أن تدعي محاكاة واقع، أو تكريس لغة الانعكاس المرآوي لواقع ينفلت من بين أصابعها ويتمنع عن نسيج النص فيما لو تم الاكتفاء باللغة الجاهزة المباشرة. لو اعتمد الكاتب لغة تقريرية عملية مباشرة إزاء واقع متناثر متشظي، واقع ممزق ومفكك الهوية والثقافة والمجتمع والذاكرة والتاريخ...، فإننا سنكون أمام رواية تقليدية لن تتجاوز مستوى الموقف السياسي الرخيص رغم ما قد يكتنفه من صراخ وتحريض وغضب عنفي لا أقل ولا أكثر. لذلك يعسر ادعاء محاكاة ما يحصل على الأرض في هذا الواقع الحي. لهذا كان ضروريا تبعا لمنطق الكتابة الداخلي وانسجاما مع آليات اشتغالها ككتابة أدبية فنية جمالية أن تؤسس وجودها الفني المتميز عن لغة الأيديولوجية والموقف السياسي الحافي، أي المنزوع الدلالة المكثفة، والفقير في لغته الشعرية، والمخنوق إلى حد الإعدام للأفضية الرحبة المانحة للحلم والأمل، والقامع للرؤى السردية في تنوعها وتعددها كزوايا مختلفة المنظور. 
لهذه الاعتبارات الأدبية الجمالية كان ضروريا أن تحاور الروية نفسها، بمعنى أن تعي التفاعل الجدلي بين تشكلها كنص إبداعي، وتشكل الواقع في الرواية. وما كان لهذا أن يتحقق إلا من خلال الاشتغال على مكوناتها البنيوية وأدوات وآليات اشتغالها، حتى تتمكن من تعرية وفضح واقع البلد والمدن السورية التي صارت بفعل الطغيان الأمني والمخابرات مجرد ركام وأنقاض وخراب طال الإنسان وانعكس على حياته كلها. كما صار المواطن مجرد مزق ودمار، وتشوهات جسدية وروحية، مهددا في حياته وقيمته الإنسانية التي استباحها التسلط المخابراتي لنظام وحشي، مسخ قواه الأمنية، وجعلها في صورة وحوش شرسة، تخرب وتدمر، وفي الوقت نفسه تتآكل بفعل همجيتها الداخلية. كما سلخ الطغيان من الناس إنسانيتهم بهدر كرامتهم وحريتهم، وإبادة مشروعهم الوجودي كهوية وطنية ومجتمع وثقافة وعمق حضاري.
من هذا المنظور الفني استطاعت الرواية أن تقدم التمزق والتشظي والضياع الوجودي والإنساني الذي يرزح تحت عبء وطأته الشعب السوري. إنها رواية تمسك بالواقع المنفلت وتجمع عناصره المتناثرة في بنية كلية قابلة للقراءة والفهم والفعل والحلم رغم مأساويته، ورغم ما توحي به عناصرها البنيوية من تمزق وتناثر، كصياغة ورؤية فنية لمقاربة الواقع المتناثر أشلاء. 
"أنا كاتب متفائل، أحب إشعال الشموع. كلما قتلوا شاعرا ورثت دمه، وكلما قتلوا امرأة ورثت رحمها، وكلما قتلوا طفلا ورثت براءته وألعابه... قد أكون طوباويا أو رومانسيا، وربما مثاليا أو مراهقا سياسيا، لكني متفائل بعمق، على الرغم من هزيمتي وانحساري، وعلى الرغم من خوفي وشعوري العميق بالغدر والخذلان من قبل العالم وكرته الأرضية، وأصدقاء بلدي وأعدائها وأشقائها وعشاقها وخلانها وجيرانها...".