كارل أونوريه يدعو إلى التخلي عن عبادة السرعة

المفكر الكندي يؤكد أن حركة البطء ليست محاولة لتحويل الكوكب كله إلى منتجع.
المبدأ المركزي في فلسفة البطء هو قضاء الوقت الكافي لإنجاز الأمور بالشكل الصحيح
كثير من الناس يميلون إلى الإبطاء بدلا من فعل كل شيء بسرعة أكبر
البطء يساعد الناس في العيش والعمل والتفكير واللعب بشكل أفضل

جاء إطلاق الترجمة العربية من كتاب "في مديح البطء" الذي ترجم للعديد من لغات العالم بعد أن حققت أفكاره صدى عالميا واسعا، ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 29، بحضور مؤلفه الكاتب الكندي كارل أونوريه، حيث تتبع فيه كارل تاريخ علاقتنا المتوترة مع الوقت متناولا عواقب الحياة في ظل هذه الثقافة المتسارعة التي صنعناها بأنفسنا. تساءل: هل حركة البطء هي حقا حركة؟ وقال "إنها تمتلك بالتأكيد جميع المقومات التي يبحث عنها الأكاديميون، من تعاطف جماهيري ومخططات لطريقة حياة جديدة، وعمل شعبي. صحيح أن حركة البطء ليس لها هيكل رسمي وأن الكثيرين لم يسمعوا بها، لكننا نرى كثيرا من الناس يبطئون فيقللون ساعات العمل مثلا أو يخصصون وقتا لطهو الطعام من دون أن يشعروا بأنهم جزء من حملة عالمية مقدسة. إن كل تصرف ينطوي على الإبطاء يضيف قوة إلى الحركة.
روى كارل في كتابه الذي ترجم ضمن مشروع كلمة بأبوظبي أنه في عام 1898، نشر مورغان روبرتسون رواية "العبث"، وهى رواية غيبية ورؤيوية عن حماقة الإصرار على تسجيل سرعات قياسية لعبور الأطلسى مهما كان الثمن، وقال "تبدأ القصة عندما تكشف إحدى الشركات النقاب عن أكبر سفينة سياحية على الإطلاق، بنيت بحيث تكون "غير قابلة للغرق عمليا"، وقادرة على السفر في أعالى البحار بكامل سرعتها في شتى الأحوال الجوية. لكن السفينة اصطدمت في رحلتها الأولى بسفينة أخرى فشطرتها، وشجب شاهد عيان عملية "التدمير الوحشى للأرواح والممتلكات ابتغاء للسرعة". 
كان اسم تلك السفينة الخيالية "تايتان". وبعد أربعة عشر عاما، وفي عام 1912 اصطدمت "تايتانك" بجبل جليدى، ما أسفر عن مقتل أكثر من ألف وخمسمائة شخص. وكان غرق تايتانك غير القابلة للغرق، كافيا لإنطلاق صيحات تدعو لصحوة هذا العالم المستبعد للسرعة. كان الكثير يأملون أن تجبر هذه المأساة البشرية على التوقف برهة تلتقط فيها أنفاسها، وتتأمل مليا في عبادة التسارع، لترى أن الوقت قد حان فعلا لبعض الإبطاء".

إذا شعرت بالارتياح بعد فعل بطئ صغير، انتقل إلى الأكبر، وأعد النظر في ساعات عملك، أو فكر بجملة لجعل حيك ملائما أكثر للمشاة

وأضاف "لكن هذا لم يحدث، فبعد مرور قرن من الزمن، مازال العالم يجهد لأن يفعل كل شىء بشكل أسرع، ومازال يدفع لذلك ثمنا باهظا. ضريبة ثقافة العجلة موثقة جيدا. ونحن نقود هذا الكوكب، ونقود أنفسنا نحو الانهيار والنضوب والإنطفاء. إننا فقراء وقت ومرضى وقت، بحيث أهملنا أصدقاءنا وعائلاتنا وشركاءنا. نحن بالكاد نعرف كيف نتمتع بالأمور، لأننا نتطلع دائما إلى الأمور التى تليها، وكثير من الطعام الذى نتناوله بلا طعم وغير صحي. وإذ يصاب أطفالنا بلوثة الاستعجال ذاتها، فلإن المستقبل يبدو قاتما. يبدو أننا لم نفقد كل شىء، فما زال هناك متسع من الوقت لتغير المسار، وإذا كانت الحياة العصرية تترك بصماتها فنيا على سرعة، وانشغال، وهواجس توفير وقت، فإن ردود الفعل القوية قادمة لا محالة. و"حركة البطء" تمضى قدما. صار كثير من الناس يميلون إلى الإبطاء بدلا من فعل كل شيء بسرعة أكبر، وتوصلوا إلى أن البطء يساعدهم في العيش والعمل والتفكير واللعب بشكل أفضل".
ورأى كارل أن حركة البطء ليست محاولة لتحويل الكوكب كله إلى منتجع. وقال "نحن في معظمنا لا نرغب في إبدال عبادة السرعة بعبادة البطء؛ فالسرعة قد تكون ممتعة ومنتجة وقوية ومن دونها سنكون أكثر بؤسا وفقرا، إلا أن ما يحتاج العالم إليه، وما تقدمه حركة البطء، هو طريق وسط وصفه تزواج بين قانون عذوبة الحياة وديناميكية عصر المعلومات، والسر يكمن في التوازن".
وأشار إلى أن حركة البطء مازلت تواجه بعض العقبات بطبيعة الحال، ليس أقلها أحكامنا المسبقة. فنحن نشعر بقيود حتى عندما نتوق للإبطاء، قيود هى خليط من الجشع والجمود والخوف، تدفعنا إلى المحافظة على وتيرة السرعة. في وقت مكبل بالسرعة، ما زالت السلحفاة بحاجة إلى الكثير لكى تقنعنا. يرفض النقاد حركة البطء بوصفها بدعة عابرة، أو فلسفة هامشية لن تسود. وبالتأكيد، فإن الدعوات إلى تقليل السرعة لم توقف تسارع العالم منذ الثورة الصناعية، وكثير من الذين اعتنقوا البطء في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أمضوا الثمانينيات والتسعينيات وهم يسابقون الزمن للحاق بما فاتهم. ترى ماذا سنفعل حين يعود الإقتصاد العالمى إلى الهدير، أو عندما نعيش حالة إزدهار مماثل لإزدهار الدوت كوم؟ هل نرمي كل الحديث عن التباطؤ من النافذة، ونسرع جميعا لتحقيق ربح سريع؟ لا نراهن على ذلك. نحن نفهم، أكثر من أي جيل قبلنا، مدى خطورة وعبث التسارع المستمر، ونحن مصممون أكثر من أي وقت مضى على دحر عبادة السرعة. 
وأكد كارل أن حركة البطء تمتلك زخما وقوتها الدافعة الخاصة، فرفض السرعة يحتاج إلى شجاعة، والناس ميالون إلى المغامرة حين يعلمون أنهم ليسوا وحدهم، وأن ثمة آخرين يشاطرونهم الرؤية نفسها، ويشاركونهم المخاطر ذاتها. وتزاد قوة حركة البطء بازدياد عدد أتباعها، وكلما تمكنت مجموعات مثل حركة "الطعام البطئ" أو "جمعية إبطاء الزمن" من احتلال عناوين الأخبار بات أسهل قليلا على الباقين طرح مسألة السرعة، وأكثر من ذلك حين يجني الناس ثمار التباطؤ في أحد ميادين الحياة، فإنهم غالبا ما يطبقون الدرس نفسه في ميادين أخرى. 
أسست أليس ووترز مطعم "شى بانيس" الشهير جدا في بيركلي بولاية كاليفورنيا، وأصبحت نجمة حركة "الطعام البطئ". وبدأت في 2003 تحاضر في موضوع التعليم المدرسي البطئ. فبعد أن استطاع روجر كمبر أن يكتشف ملذات جنس التانترا البطئ، خفف من ضغط جدول أعماله. وبالنسبة إلى كلير وود، فإن التخلي عن وظيفتها رفيعة المستوى في مجال التأمين من أجل صنع الصابون، كان قرارا ملائما تماما يتناغم مع دراسة ابنتها بث في المنزل. كما أن الاستعانة بتمارين تشي هيوز كيف يمنح عمله الاستشاري والفصول الدراسية ما يلزمها من وقت. أما المصرفية جل هانكوك، فإن إطفاء هاتفها المحمول في المساء ألهمها الطبخ. وتقول: "بمجرد البدء بتحدى عقلية العمل من دون توقف، نجد أننا صرنا نتحداها في كل الأمور. ونعتاد على التعمق قليلا في الأشياء بدلا من الاكتفاء بالقشور". 
وأوضح أن هذا الإحساس بأن شيئا ما مفقود من حياتنا يدعم التوق العالمي إلى البطء، ولكن السؤال يبقى مفتوحا حول ما إذا كان ذلك الشيء أعمق من مجرد نوعية حياة أفضل. يجد العديدون أن للتباطؤ بعدا روحانيا، لكن آخرون لا يجدونه كذلك، وتتسع حركة البطء لدرجة تستوعب فيها كلا الرأيين. وعلى أية حال، فإن الفجوة بين الرأيين قد لا تكون واسعة كما تبدو. فأكبر فائدة للتباطؤ هي استعادة الوقت والهدوء للتواصل المفيد مع الناس ومع الثقافة ومع العمل ومع الطبيعة ومع أبداننا وعقولنا. يسمي البعض ذلك عيشا أفضل، ويصفه آخرون بأنه روحاني.  

Slow praise
مرونة للتباطؤ

ولفت كارل إلى أن حركة البطء تنطوي على تشكيك بالمادية المنفلتة من عقالها التي تحرك الإقتصاد العالمي. ولهذا يعتقد النقاد أن لا طاقة لنا بها، أو أن الإبطاء سيظل زينة تجمل نمط حياة الأغنياء. فبعض مظاهر فلسفة البطء، من طب بديل، وأحياء سكنية مخصصة للمشاة، ولحوم حيوانات مرباة في الطبيعة، لا تناسب كل الموازنات. لكن معظم مظاهر فلسفة البطء تناسب الجميع، فقضاء المزيد من الوقت مع العائلة والأصدقاء لا يكلف شيئا، وكذلك المشي والطبخ والتأمل وممارسة الحب والمطالعة وتناول العشاء على طاولة الطعام بدلا من تناوله أمام التلفزيون. وببساطة، فإن مقاومة الرغبة في الاستعجال مجانية أيضا، كما أن حركة البطء ليست حركة معادية للرأسمالية، بل على العكس إنها تمدها بشريان حياة. 
في شكلها الحالي، تجبرنا الرأسمالية العالمية على الإسراع في العيش، مهما كانت التكلفة، أما البديل البطئ فيتعامل مع الناس والبيئة بمثابة أصول ثمينة لا مدخلات "تستخدم مرة واحدة" ما يجعل الإقتصاد يعمل لمصالحنا، وليس العكس. وقد تعني الرأسمالية البطيئة انخفاضا في النمو، وفكرة يصعب تسويغها وتسويقها في عالم مهووس بمؤشر داو جونز، لكن الإعتقاد بأن الحياة فيها أكثر من مجرد تحسين الناتج المحلي الإجمالي، أو الركض الذي لا ينتهي في متاهات الحياة، تلاقي قبولا واسعا، خاصة في الدول الأكثر ثراء، حيث يفكر المزيد والمزيد من الناس في التكلفة العالية لحياتهم المحمومة.
وقال "في عصر المتعة الذي نعيش، فإن حركة البطء تمتلك سر النجاح: إنها تروج المتعة. المبدأ المركزي في فلسفة البطء هو قضاء الوقت الكافي لإنجاز الأمور بالشكل الصحيح، وكذلك التمتع بها أكثر. تمنحنا فلسفة البطء السعادة مهما كان تأثيرها في الميزانيات الإقتصادية: صحة موفورة، وبيئة مزدهرة، ومجتمعات قوية، وعلاقات متينة، وتحرر من الاستعجال الذي لا ينتهي. بيد أن إقناع الناس بمزايا البطء ليس سوى البداية. فالإبطاء معركة مستمرة حتى نتمكن من إعادة كتابة القواعد التي تحكم جميع ميادين حياتنا تقريبا، من الإقتصاد وأماكن العمل والتصميم الحضري إلى التعليم والطب. وهذا يتطلب مزيجا مدروسا من الإقناع بالحسنى، ولكنه جوهري وحاسم. 
إن أسباب التفاؤل موجودة. فنحن بمجموعنا نعلم أن حياتنا محمومة جدا، وأننا نريد الإبطاء، ويتزايد إقبالنا بمثابة أفراد على دروس الفرامل لنكتشف أن حياتنا تتحسن. والسؤال الكبير المطروح الآن هو؛ متى سيتحول الفردي إلى جماعي؟ متى ستتمكن كثير من أعمال التباطؤ الشخصية، التي يشهدها العالم بأسره، من أن تشكل كتلة حرجة؟ ومتى ستتحول حركة البطء إلى ثورة بطء؟
ورأى كارل أنه إذا أردنا مساعدة العالم في الوصول إلى هذه النقطة الحرجة، فإن على كل واحد منا أن يحاول إفساح المجال أمام البطء. ولعل خير بداية هي إعادة تقييم علاقتنا مع الوقت. 
لاري دوسي، الطبيب الأميركي الذي صاغ مصطلح "مرض الوقت" المساعدة للمرضى كى يهزموا هذا العارض بتعليمهم كيفية الخروج من الزمن وذلك بإستخدام الارتجاع البيولوجي، أو التأمل، أول الصلاة لهندسة "مخارج الزمن" فيصبحون قادرين على الإبطاء بمواجهة الطريقة التي تحكمت فيها الساعة بحياتهم. يمكننا جميعا أن نتعلم من هذا، أن علينا أن نحاول التفكير في الوقت لا بإعتباره موردا محدودا يستنزف دائما، ولا بلطجيا يتعين أن نخشاه أو نقهره، ولكن بوصفه مقوما حميدا نعيش فيه. كفاك عيشا في كل ثانية كما لو أن فريدريك تايلور يحوم بقربك، ينظر في ساعته، ويهز رأسه، ويدون الأرقام في لوحته. حين نصبح أقل عصبية حيال الوقت، يمكننا استخدام مجتمع الأربع والعشرين ساعة استخداما أكثر عقلانية. 
وقد ذكرت في بداية هذا الكتاب أن عالما مفتوحا على مدار الساعة هو عالم يدعو إلى الإستعجال. امنحنا فرصة لفعل أى شيء، في أي وقت، وسنتخم جداول مواعيدنا إلى حد الإنفجار. لكن مجتمعات الأربع والعشرين ساعة ليست شرا في جوهرها. إذا قاربناها بروح البطء، وفعلنا أشياء أقل باستعجال أقل، فستمنحنا ما نحتاج إليه من مرونة للتباطؤ.
وختم كارل "عندما يتعلق الأمر بالتباطؤ، فمن الأفضل البدء بخطوة صغيرة. جرب أن تطهو وجبة من الصفر، وأن تتمشى مع صديق بدلا من المغادرة فجأة لشراء أشياء لا تحتاج إليها حقا من مركز تسوق، وأن تقرأ الصحف من دون تشغيل التلفزيون، وتضيف التدليك إلى طقوسك في ممارسة الجنس أو ببساطة أن تأخذ بضع دقائق للجلوس بسكينة وهدوء في مكان هادئ. إذا شعرت بالارتياح بعد فعل بطئ صغير، انتقل إلى الأكبر، وأعد النظر في ساعات عملك، أو فكر بجملة لجعل حيك ملائما أكثر للمشاة".