كراهية بلا ضفاف… في عراق ما بعد داعش مثلاً

خطاب الكراهية لا يقتصر ضد الأقليات الدينية في العراق على أوساط دينية متشددة فقط بل يتمدد الى المدارس ويشكل جزءاً من مواد كتب ومناهج تعليمية لا تخلو من كلمات ونصوص تُدَرّس في مناهج التربية مثل مادة التربية الدينية، التربية الوطنية والثقافة العامة.

بقلم: خالد سليمان

خطابات من رجال دين عرب سنة وشيعة وأكراد، وصفحات من كتب المناهج التعليمية في العراق، غطّت على عيدَي الميلاد ورأس السنة، وعرّت كل التصوّرات عن التعايش والتماسك الاجتماعيّين، وقبول الآخر بطبيعة الحال. وهذا الآخر الذي لا يختلف في وجوده وانتمائه وتاريخه في البلاد عن بقية العراقيّين سوى في الدّين، تستهدفه المناهج التعليمية ومواقف رجال دين يحتلّون مواقع رسمية حكومية ودينية في العراق، كما استهدفه “داعش” والحركات الأصولية السلفية الأخرى.

إن رجل الدين السنّي البارز في العراق الشيخ مهدي الصميدعي، المقرّب من الحكومة والمنتمي إلى المذهب السلفي من التيار الجامي الذي يحرم الخروج عن الحاكم مهما كان توجهّه العقائدي والسياسي؛ هو أوّل من أعاد إشعال عود الثقاب ضد المسيحيّين، بعدما وافق مجلس الوزراء العراقي على اعتبار 25 من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام عطلة رسمية في جميع أنحاء البلاد بمناسبة ميلاد السيد المسيح. وقال مفتي الجمهورية بتاريخ 28 كانون الأول 2018: “لا يجوز الاحتفال برأس السنة ولا التهنئة بها ولا المشاركة فيها فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الفعل، قال ابن القيم رحمه الله… من هنّأ النصارى في أعيادهم… كمن هنّأهم في السجود لصلبانهم…”. وهذه المرّة الأولى التي تعلن فيها الحكومة العراقية عن عطلة تشمل جميع المواطنين بعدما كان يقتصر عيد الميلاد على المسيحيين فقط.

وفي إقليم كُردستان، تم استبعاد خطيب سلفي شاب اسمه سوران عبدالكريم من وظيفته بسبب موقف مشابه، حرّم فيه مشاركة المسلمين عيدَي الميلاد ورأس السنة، إنما لم يستغرق أمر الاستبعاد أياماً حتى أعادته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى الوظيفة، من دون أن يتراجع الخطيب السلفي الشاب عما صدر منه تجاه المسيحيّين وبثّه خطاب كراهية ضدهم. على الخطى ذاتها، وبمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد، أشعل رجل شيعي عود ثقاب آخر تفوح منه رائحة الكراهية، وهو رئيس ديوان الوقف الشيعي علاء عبد الصاحب الموسوي، إذ قال إن “المسيحيين لم يتركوا رذيلة الا وارتكبوها”. إنه خطاب كراهية بلا ضفاف، يفرض رجال دين من خلاله، رؤاهم الموحلة على الجميع ولا يتركون للاختلاف شأناً.

بناءً على ما ذكر، وعلى رغم وجود حاضنات كثيرة لبث خطاب الكراهية ضد الأقليات الدينية مثل الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، يمكن القول إن جزءاً كبيراً من أصول التطرّف يكمن في خطابات رجال دين متشدّدين تُبث من خلال مواقعهم الدينية والاجتماعية ضد مجموعات دينية وثقافية قد تخلو البلاد من أفرادها إذا استمرّت، على هذا النحو، العنصرية والفوقية الدينية ضد ثقافاتهم وتقاليدهم، وممارسة حياتهم بحرية في البلاد.

ولا يقتصر بث خطاب الكراهية ضد الأقليات الدينية في العراق على أوساط دينية متشددة فقط، بل يتمدد الى المدارس ويشكل جزءاً من مواد كتب ومناهج تعليمية لا تخلو من كلمات ونصوص تُدَرّس في مناهج التربية مثل مادة التربية الدينية، التربية الوطنية والثقافة العامة. ولا تمنع النصوص الواردة  في المناهج التعليمية الطلاب من الفهم الوسطي والانفتاح وقبول الآخر فحسب، بل تدفعهم إلى الانغلاق، ناهيك بتحريضهم على التطرف ونبذ الآخر. وهذا ما نلاحظه في كتاب (القرآن الكريم والتربية الإسلامية) لمرحلة الخامس الإعدادي في مدارس العراق، حيث جاء في درس (دور المرأة في المجتمع): حجابي فريضة، وإني الصحيحة وغيري المريضة (ص82).

صفوة القول، تُضيق مثل هذه النصوص، مساحة فهم العالم على نحو أوسع وأرحب أمام الطلاب، وفيه، الاختلافات الدينية والثقافية والعرقية بطبيعة الحال. وسبب ذلك على الأرجح، هو أن كتب التربية الدينية واللغة والثقافة في المدارس خاضعة لمناهج وعقول تكنّ الكراهية للانفتاح والفلسفة والعلوم الاجتماعية، ذاك أن مدارسنا في العالم العربي والإسلامي لم تعلن الطلاق بعد من المنهج التلقيني لأبي حامد الغزالي (1058-1111) الذي كان يدير “المدارس النظامية” في بغداد في النصف الثاني من القرن الحادي عشر حين منع تدريس الفلسفة والعلوم الاجتماعية.

لقد حصلت محاولات لإجراء التغييرات على مادة التربية الدينية في إقليم كُردستان العراق 2012، إنما واجهت تلك المحاولات معارضة أحزاب إسلامية وقوى اجتماعية رديفة وبقيت في نطاقها الضيّق، ذاك أن التغييرات كانت شكلية في بعض جوانبها، إذ يتم تدريس الأديان الأخرى وفقاً للدين الإسلامي. وقد رفض المسيحيّون التغيّرات التي أجريت على مادة التربية الدينية بسبب معلومات خاطئة حول ولادة المسيح وإجراء الإصلاحات من المنظور الإسلامي.

قصارى الكلام، قبل وضع حد لمنابر بث خطاب الكراهية ضد الأقليات الدينية، وضد المختلفين في لون البشرة كما في حالة ذو البشرة الداكنة في البصرة جنوب العراق، يقتضي الواقع التعليمي إصلاح المناهج والعمل على إلغاء تلك النصوص التي تحرّض على العنف والتطرّف في كتب التربية الوطنية والثقافة العامة والتربية الدينية. كما لا بد من جعل مواد الفنون والثقافات وحقوق الإنسان أكثر أهمية، إذ من شأنها الارتقاء بمستوى فهم الطلاب إلى مكانة تحتل فيها مبادئ التعايش وقبول الآخر ونبذ الكراهية موقع الصدارة. كما يجب أن يشمل الإصلاح دور المرأة ومكانتها في المناهج التعليمية ويعطيها الفاعلية والمشاركة في اتخاذ القرارات من دون إخضاعها لشروط دين الغالبية.

لقد فشلت ثورات الربيع العربي في لجم التطرّف الديني والمذهبي والعرقي في المجتمعات العربية، بسبب تسليم مصائرها الى رجال دين متعصّبين. لكن هل يؤدي هذا الفشل إلى إعادة التفكير في تلك التحدّيات التي حالت دون إنجاح التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها المجتمعات العربية عام 2011؟ هل تراجع النخب السياسية نظاماً تربوياً عفّ عليه الزمن، ولم يرتق بالأفراد إلى قيم العدالة والمواطنة، والمشاركة السياسية؟ انها أسئلة تقتضي إحداث “ربيع عربي” في النظام التعليمي كخطوة أولى لوضع حد لخطاب الكراهية.

عن صفحة درج