كربلاء.. أموال العتبات الهائلة كيف تجمع في الماضي
بقلم: علي الفتلاوي
أتيحت لي فرصة حضور مراسم فتح الشباك، أو كما نسميها في اللغة العامية (الفتحة) الخاصة بالعتبتين واطلعت على الكثير من الأسرار التي كانت خلف الكواليس حيث تغلق أبواب الحضرة بعد صلاة العشاء لمدة يومين نهاية كل شهرليتمكن خدم الروضة من جمع الأموال وحسابها
تجري (الفتحة) بحضورالمحافظ ونائبه ومدير أوقاف المحافظة وأحد قضاة كربلاء وممثل عن الحزب ، بالاضافة الى مجموعه من مراقبي الأوقاف ، وحوالي خمسة وعشرين شخص من خدم الحضرة، توضع مقاعد في مكان مفتوح قريب من الشباك لجلوس المحافظ ومن معه وتفرش الأرض بسجاده طويلة أمامهم بحضور السادن ، (السادن هو كبير خدم العتبة وكانت السدنة لفترات طويلة بيد عائلة السادة ال طعمه وهم من عوائل كربلاء العريقة ) فتحة ضريح الحسين تكون بحضور السادن صاحب نصر الله، و فتحة العباس تكون بحضور السادن مهدي الغرابي، وهم اخر السدنه للروضتين.
يتوزع الخدم على جانبي السجادة بعد جمع الأموال في سلات كبيره توضع أمامهم لترتيبها حسب نوع العملة والفئة، وتوضع أكياس صغيرة أمام مدير الأوقاف لفرز العملات الأجنبية والقطع الصغيرة من الذهب والفضة التي كان زوار العتبات يرمونها كنذور في داخل الضريح
بعد ان تتم هذه العملية توضع الأموال بسيارات خاصة بحماية شرطه كربلاء يرافقهم مدير الشرطة، و مدير الاوقاف لايداعها في مصرف الرافدين- فرع كربلاء- في نهاية شارع الحسين عند جامع الحسن حسينية حسين آبادي الان.
تدخل الأموال في رصيد وحساب الروضتين وتخصص لبناء وإصلاحات وتذهيب الروضتين ،اضافه الى ان قسم من الاموال مخصص كرواتب للسدنة وخدم الروضتين. أمر المحافظ صابرالدوري بعد استلامه إدارة المدينة بجرد أسماء العوائل المتعففة في كربلاء لمساعدتهم على متطلبات الحياة ،وكانت تصرف لهم مساعدات شهرية من هذه الأموال بعد أن يقدم كشف رسمي بتلك العوائل من قبل مدير اوقاف المحافظة. هذه التقسيمات ما عدى رواتب المتعففين هي إجراء متبع منذ فتره طويلة.
في أول فتحه للضريحين وبعد أن تمت عملية جمع الأموال وعدها، ظهرت نتيجة الجمع كالتالي:
- فتحة ضريح الحسين بلغت ثلاثة ملايين دينار عراقي فقط
- فتحة ضريح العباس بلغت مليونين دينار عراقي فقط
ثارت شكوك المحافظ صابرالدوري لقلة الإيرادات بالرغم من أن كربلاء شهدت هذا الشهر ٢٠ من صفر عام ١٩٩٦ زيارة الأربعين وكانت زيارة مليونيه قدرت (باربعة الى ستة ملايين زائر) حسب إحصائيات الحكومة!؟ وسأل عن السبب فكانت إجابة المعنيين مبهمة وأكدوا له ان هذه المبالغ هي الأموال الشهرية التي تحصل عليها العتبات منذ زمن بعيد
في هذا اليوم أكملنا فتحة الإمامين بحدود الساعة الثانية عشر ليلا أراد السيد المحافظ أن يعود إلى منزله مشيا على الأقدام ليرى أعمال التنظيف الليلة وكما قال حتى نحرك اجسادنا جراء الجلسة الطويلة المتعبة، وطلب من مدير الأوقاف أن يرافقه، واثناء المسير وجه المحافظ سؤاله لمدير الأوقاف اين تذهب الأقفال والمفاتيح الخاصة بأقفاص الأضرحة، بعد إكمال عملية الفتحة ؟
أجاب مدير الأوقاف: أن مفتاح ابواب القفص بثلاث نسخ لقفل واحد، نسخة تكون في مكتب المحافظ والثانية في مكتب مدير الأوقاف، والثالثة مع سادن الحضرة. استغرب المحافظ من هذا الأمر وقال لمدير الأوقاف: توكل على الله فقد أتعبناك بالمشي معنا والصباح رباح.
كان هذا اليوم هو السبت حسب ما اتذكر، وفي يوم الأحد من كل أسبوع يكون للمحافظ يوم حافل بمقابلات المواطنين، وكان واجبي أن احضر تلك المقابلات للتوثيق الصحفي والتصوير إذا طلب المحافظ ذلك.
بعد أن أكملنا المقابلات الصباحية للمواطنين كون المقابلات تجري أثناء الدوام الصباحي والمسائي للمحافظة- أستأذنت بالخروج، فطلب السيد المحافظ مني البقاء قائلا اجلس، هناك شيء أريد نناقشه سوية قبل حضور الضيوف الذين دعوتهم لنفس الموضوع، وأريدك أن تكون حاضرا في لقائي معهم.
فقلت: تحت أمرك سيدي المحافظ، فأردف قائلا تناهى إلى أسماعي إن بعض خدم الحضرتين أشخاص غير موثوق بهم (وأيدهم مو نظيفة) يستغلون عدم انتباه وبساطة مدير الأوقاف ويقومون بالسطو الأصولي على أموال الأضرحة، بطريقه يصعب اكتشافها بعد إقفال أبواب الصحن ، بحجه إعادة التنظيف وهم يملكون نسخه من مفتاح الضريح، ومعظم وقتهم هناك ، فيسرقون بعض الأموال بطريقه (حرامي البيت) من غير أن يشعر بهم احد. بدت على وجهي ابتسامه اثارت انتباه السيد المحافظ فقال لي: ما لذي يجعلك تبتسم ابني علي؟
قلت :عذرا سيدي المحافظ لكني قرأت قول للإمام الحسين يقول: أشرار الناس خدام قبورنا
ابتسم المحافظ،. ابتسامة الم وحسرة وقال من منا يصل إلى التراب الذي كان يمشي عليه أهل البيت، كانوا يعلمون كل شيء وعلمونا كل شيء، ولكن من ذا الذي يتعظ! ويسير على نهجهم، ويقتدي بسيرتهم، وأردف قائلا.. غريب أمر هؤلاء الأشخاص -لا أخفيك عندما أقف في حضرة الحسين وأخيه العباس اشعر برهبة كبيره فهما سيدا شباب أهل الجنة واطهر من دفن في كربلاء والعراق، فإلى أي درجه من الاستهانة بالمقدسات وصل أولئك ليسرقوا حتى آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقلت له سيدي المحافظ إذا كنت لا تثق بخدم الحضرة، فلماذا لا تستبدلهم أو تحيلهم إلى التحقيق؟ الست أنت رئيس لجنة أوقاف المحافظة؟
فأجابني بهدوء، ابني علي موضوع استبدال السدنة ليس من اختصاصي، فهم معينون من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، والشيء الثاني الذي أخشاه، لا يوجد لدي دليل يدينهم أو يثبت سرقتهم سوى أحاديث المواطنين الذين قابلتهم وسألتهم بطريقه غير مباشره، فأخشى أن يقع ظلم على شخص بسببي بغير قصد، عندها ماذا سأقول لله جلت قدرته إن ظلمت شخص برئ؟
المهم نحن نفعل ما يمليه علينا ضميرنا ومسؤوليتنا للحد من هذه السرقات بكل جهدنا (والباقي متروك لأهل البيت مو العباس أبو راس الحار وشارته ما تعبر)، على العموم سترى ما سيفعله عمك بعد قليل. دخل علينا السكرتير وبعد ان ادى التحية قال سيدي سدنة الروضتين ومدير الأوقاف يستأذنون بالدخول. المحافظ: خليهم يتفضلون احنه ننتظرهم.
دخل الجميع ووقف السيد المحافظ للسلام عليهم وبعد كلمات الترحيب والمجاملات والنوادر التي كانت لا تخلوا من جلسات السيد المحافظ حيث يلاطف الجميع ويجاملهم بتندره اللطيف على المواقف والأحداث ولا يجلس على مكتبه وإنما بالقرب من ضيوفه فقال لهم: إخواني، خطر في بالي شيء مهم ويجب أن أصارحكم فيه، إن مفاتيح أقفاص الأضرحة لا بد أن تبدل بين فتره وأخرى، لأننا نخشى عليها من ضعاف النفوس أو تعرضها للسرقة الخارجية، فأرى أن يستبدل القفل الكبير الموجود بأبواب الأقفاص الداخلية للضريحين بثلاثة أقفال جديدة وبنسخه واحده لكل قفل، على أن يكون كل مفتاح من هذه الأقفال الثلاثة بيد واحد منا، أي يكون مفتاح القفل الأول بيد السادن، ويكون مفتاح القفل الثاني بيد مدير الأوقاف، ويكون مفتاح القفل الثالث بيد المحافظ، ولا تفكروا بأنها عدم ثقة ولكن أخشى على نفسي أن تزل في يوم من الأيام، وأفكر بسرقه الأضرحة فعندما يكون عندي مفتاح واحد من ثلاثة مفاتيح مختلفة سأخشى من كشف أمري عندكم، ولا استطيع سرقتها إلا بوجودكم انتم الاثنين، وهذا نوع من منع النفس عن الهوى أليس كذلك.
احمرت واصفرت الوجوه وبدت الألوان تختلف وتتضارب فكانت حركة جريئة ولطيفة بعيدة عن خدش المشاعر من قبل المحافظ أو الانتقاص منهم فضرب مثال فكرته على نفسه.
استبدلت الأقفال ووضع مفتاح كل قفل من الأقفال الثلاثة عند احد الثلاثة (المحافظ، مدير الأوقاف، سادن الروضة) وبعد شهر من استبدال الأقفال كانت حصيلة الأموال المستحصلة من الأضرحة:
ثلاثون مليون دينار عراقي في ضريح العباس وستة وعشرون مليون دينار عراقي في ضريح الحسين.
توالت الأيام والأشهر وأنا أرافق السيد المحافظ في فتحة الإمامين من كل شهر وثار انتباهي للحركات البهلوانية التي يقوم بها خدم الروضتين خلال الأشهر التالية ومن إشارات مريبة فيما بينهم. شاهدت العجب العجاب من بعض الخدم والذين من المفترض أن يكونوا قمة في الأمانة والإخلاص.
عند خروجنا بعد إكمال فتحة الأضرحة أخبرت السيد المحافظ بما رأيت من أمور تتلخص في وضع خيط مطاط على المعصم ما يسمى باللغة العامية (لإستيك أو تجه للنقود) تحت العباءة أو الجبة التي يرتديها خدم الروضتين، مستغلين غفلة مراقبين الأوقاف بإخفائها تحت الجبة بحركة سريعة غريبة تدل على الخبرة بالسرقة منذ سنين.
ايدني السيد المحافظ بأن هذه الحركات جلبت أنتباهه أيضا والشيء الآخر الذي أثار شكوكه، خروج خدم الروضة بين فترة وأخرى بحجة الذهاب إلى دورات المياه لقضاء حاجاتهم اكثر من الطبيعي، وهذا معناه إن السارق يخرج بين فترة وأخرى لإفراغ ما تحت جبته والكشيدة (الكشيدة غطاء الرأس الذي يرتدي سادن وخدم الروضتين) والعودة لإكمال حساب الأموال وسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه.
بعد حصول السيد المحافظ صابر الدوري الحسيني على هذه المعلومات ومعرفته بجميع ثغرات عملية جمع الأموال التي جرت، اصدر في صباح اليوم التالي تعليمات تخص الخدم والأشخاص الذين سيحضرون الفتحة في الاشهر القادمة، ونصت على ما يلي حسب ذاكرتي:
- على خدم الروضتين المشتركين في عملية فتح أقفاص الأضرحة عدم ارتداء الكشيدة (غطاء الرأس) والجبة أو العباءة أثناء عملية عد الأموال.
- يقوم مدير الأوقاف بتزويد خدم الروضتين بملابس خاصة بيوم الفتحة تكون خالية من الفتحات والجيوب وتكون (دشداشه نص ردن) ويمنع خدم الروضة من دخول الضريح أثناء العملية إلا بعد ارتداء هذه الملابس الخاصة
- على من يجد في نفسه عدم القدرة على تحمل الجلوس لفترة طويلة من غير الذهاب إلى دورات المياه يعفى من موضوع فتحة الإمام خوفا منا على صحته (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ولا يحق لأحد بمن ضمنهم المحافظ الخروج من الحضرة بعد فتح أبواب الأقفاص الا بعد اغلاقها
- لا تفتح أبواب الصحن وتبقى مقفلة حتى الانتهاء من أعمال الفتحة وخروج اللجنة منها بالكامل بعد إقفالها لأبواب الأقفاص بالمفاتيح الثلاثة.
كانت هذه هي الإجراءات المتبعة من قبل المحافظ صابر الدوري الحسيني للحفاظ على أموال ونذور آل البيت.
فهل يفعلها مسؤولو المحافظة والتعبات هذه الأيام! أم إن حاميها حراميها؟