كورونا تحمل الثقافة إلى منصات الفضاء الافتراضي

عبداللطيف محفوظ: من المستبعد أن يعيش المثقف الآن العزلة بوصفها قدرا قاهرا، وإنما قد يعيشها بعدها قدرا ملطفا.
المنشغل بالهم الثقافي قد يجد في هذه الفترة مساحة لعمله المعتاد، وأخرى فائضة تسعفه في إيلاء الاهتمام بالظرفية الراهنة
أزمة كورونا ستؤثر على الثقافة، مثلما ستؤثر على مجمل المجالات الأخرى

تتعمق تساؤلات جائحة كورونا، وتتسع يوما بعد الآخر لتواجه المثقف والثقافة باعتبارهما محورا مهما من محاور الوعي ويعول عليهما الكثير في تغيير الكثير من المفاهيم والعادات والتقاليد البالية، وهنا يقدم المفكر المغربي د.عبداللطيف محفوظ الأستاذ بكلية الاداب والعلوم الانسانية بنمسيك رؤيته ردا على تساؤلات مثل: هل ثمة تجليات لعزلة كورونا على المثقف؟ وهل ثمة دور لهذا المثقف في هذه الأزمة" ثم كيف ترى لأبعاد أزمة كورونا على الثقافة والمثقفين؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه الأزمة في تغيير الكثير من المفاهيم الخاصة بالثقافة ودورها؟
يقول محفوظ: بما أن كلمة "الثقافة" ملتبسة، لأنها حملت بمعان متفاوتة الدلالة، فتارة تدل على الاهتمام بالقضايا الفكرية والأدبية، وتارة على الاهتمام بقضايا المجتمع والسياسة، وتارة تكون عامة، فتدل حتى على الفاعلين في مجال الأدب والفن، ونادرا ما تدل على منتج الأفكار التي تساهم في حل معضلات المجتمعات. وسأجيب بناء على تمثل المعنى العام والشامل للثقافة والمثقف.
ويؤكد أن وباء كورونا قد فرض على الجميع حجرا؛ فَحَدَّ، حتى، من حرية الفئات التي تَحُولُ طبيعة عملها دون تنفيذ الحجر. بيد أن الوباء لم يفرض على الجميع العزلة، لأن الحجر لا يعني بالضرورة العزلة، خصوصا بالنسبة لفئة منتجي الخطابات الرمزية (المقروءة والمرئية والمسموعة). وإذن فمن المستبعد أن يعيش "المثقف" الآن العزلة بوصفها قدرا قاهرا، وإنما قد يعيشها بعدها قدرا ملطفا، من جهة لأنها مألوفة لديه، ومن جهة لأنها تفيده أكثر بإتاحتها له مساحة زمنية أكبر بكثير من تلك التي كان يسعى إليها من أجل ممارسة فعل التأمل والتفكر والإنتاج. 
ولهذا فإن المنشغل بالهم الثقافي قد يجد في هذه الفترة مساحة لعمله المعتاد، وأخرى فائضة تسعفه في إيلاء الاهتمام بالظرفية الراهنة من أجل المساهمة الفعالة من طريق وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية التي قد تتيح له المجال، كي يمارس أمرين معقولين وفعالين، في حدود طاقته، وهما أولا، المساهمة في محاصرة وتفكيك رمزية الخطابات غير العقلانية أو المستفزة على اختلاف مصادرها، مع التحسيس بخطورة الوباء ومجابهة انتشاره وفق ما تنصح به الجهات المختصة، وثانيا تلطيف الشعور بالهلع من خلال العمل على التشجيع على ملء الوقت الفائض بما يمتع ويفيد معرفيا من طريق الإغراء بمتع محتملة من قراءة كتب أو مشاهدة أفلام ومسرحيات، على اعتبار ذلك صرفا للهلع من طريق صرف النظر عن قتامة التفكير بالموت الذي يحايث التفكير بالوباء، وتلطيفا للأزمة، وخلقا لحرية من داخل القيود، وتصالحا مرحليا مع واقع لا يمكن للثقافة أن تغيره الآن، لأن الكلمة الفصل في هذه الآونة هي للعلم وللطب.

ويتابع محفوظ أن أزمة كورونا ستؤثر على الثقافة، مثلما ستؤثر على مجمل المجالات الأخرى، وأبرز تأثيراتها المفترضة أن يتحول الحامل الأساس للمنتج الثقافي من منصات فعلية، وقاعات عروض وكتب وجرائد، إلى منصات الفضاء الافتراضي، فتصير الحوامل الافتراضية أكثر حضورا، ويصير الكتاب الالكتروني أكثر ازدهارا، كما يمكن أن تصير أغلب الندوات والمحاضرات منجزة عن بعد. وأعتقد أن هذا التحول، إن حدث، سيحد، أولا، من سطوة مجموعة من الأسماء التي لم تعد تقدم جديدا، ومع ذلك مازالت تهيمن في المحافل والمنابر، لأن الذين يتحكمون في المهرجانات وبرامج القنوات والمؤتمرات، تهمهم الأسماء والعلاقات أكثر من المضامين، لكن في نفس الوقت قد يهدد هذا التحول الفعل الثقافي نتيجة انفتاح الفضاء على الجميع، فيصير الوصول إلى الأعمال الجيدة صعبا، لأنها قد تصير مثل معدن نفيس مغمور في قلب رغام بلا حدود.
ويشير محفوظ إلى أن "كورونا بعد أن تُمحي نهائيا، ويصفو الفكر ويستطيع أن يتأمل، ستسفر عن تغيير مهم يطول مفاهيم شتى تهم خصوصا مجالات الاقتصاد والسياسة والمعتقدات المصاحبة للأديان. كما لا ريب ستفرض على المفكرين ـ على اختلاف انتماءاتهم ـ إعادة النظر في مفاهيم الإنسان والعولمة والدولة والعصب والاتحادات وعلاقات التعاون الدولي. كما سيفكر الكتاب والفنانون على طريقتهم، ووفق ما يسمح به مجال اشتغالهم، في إعادة التفكير في المفاهيم النظرية ومناهج المقاربة، ومناطات الأعمال الأدبية والفنية، بما يجعلها تهتم أكثر بالمتشرك الإنساني، وبكل ما يصون حياة وكرامة الإنسان، متجاوزة وإن مرحليا القضايا المحلية والإثنية.