كيف حصن أردوغان الدولة المدنية في تركيا؟!

على الرغم مما فعله أردوغان لتجنب انقلاب العسكر إلا أن تركيا لم تسلم من عسكريين كانوا يرتبون في الخفاء خططا بالغة الخطورة لاعتقاله وقلب نظام الحكم في تركيا والسيطرة على البلاد، والمثير أن هذا المخطط كانت تديره جماعة دينية متغلغلة في مؤسسات الدولة وأجهزتها.

  بقلم: جمال سلطان

عندما أسس رجب طيب أردوغان حزبه "العدالة والتنمية" في العام 2001، كان يطوي صفحة تاريخية طويلة للتيارات الإسلامية، بما في ذلك تجربة أستاذه نجم الدين أربكان، ليفتتح صفحة جديدة، تنفتح على المجتمع، وعلى الحياة المدنية، وتعمل من خلال الدولة ونظامها الدستوري وأدواتها ومؤسساتها فقط، وتستوعب تيارات الفكر والسياسة، وتركز على التنمية في مختلف المجالات والبحث عن "جودة الحياة" للمواطن، وليس تسويق اي ايديولوجيا أو أفكار، حيث بقيت "المعتقدات" اختيارات فردية، بعيدا عن مشروع الدولة لديه وخطط النهوض .

منذ بدأ أردوغان تجربته في الحكم، منذ 2002، وكان الهاجس الأكبر الذي يهيمن عليه هو كيف يبعد العسكر عن الحياة المدنية، كيف يوقف مسلسل الانقلابات العسكرية الذي يقع كل عقد أو عقدين ليخلط كل شيء ويعيد البلاد إلى نقطة الصفر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ويخرب أي منجزات تكون قد تحققت عبر الحكومات المنتخبة.

 ركز أرودغان في البداية على تحقيق نجاح اقتصادي وتنموي، باعتبار أن هذه النجاحات التي يشعر بها المواطن العادي ستكون درعه الذي يحميه أو يساعده على مواجهة العسكر، وخلال عشر سنوات كان أردوغان وحزب يحققون معجزة اقتصادية وتنموية حقيقية في تركيا، ومن رأي البلد قبل تلك الفترة ورآها اليوم فهو بالتأكيد يرى دولة أخرى، مستويات عالية من التطور والبنية الأساسية المتفوقة والهيكل الإداري للدولة، مستويات من النظافة والنظام والرفاه لم تعرفه تركيا في تاريخ الجمهورية قبله، وأصبحت تركيا لا تقل في مستويات التنمية وجودة الحياة عن أي دولة أوربية كبيرة، بل وأفضل من كثير من دول الاتحاد الأوربي نفسه، وهذا ما حقق لأردوغان وحزبه شعبية طاغية في البلاد، وأصبح فارس أي انتخابات تجرى، برلمانية أو بلدية، لأن الناس ترى بعينها وتعيش واقعا حقيقيا وليس مجرد وعود أو خطب سياسية .

طوال هذا المشوار التنموي المذهل، كان أردوغان يخطط لعمليات حفر أنفاق سياسية ودستورية أمام العسكر، لتقليل فرصة تهديدهم للديمقراطية والدولة المدنية، وبدأ ينسج في صبر غريب خططا طويلة المدى، أهمها ربط تركيا باتفاق أوروبي يمهد لانضمامها للاتحاد الأوروبي، وفي أهم شروط عضوية الاتحاد الأوربي عدم تدخل العسكريين في الحياة السياسية، فشكل ذلك درعا جيدا استفاد منه، ثم بدأ في "تجريف" تغلغل الجيش في مفاصل الدولة، فعدل نصا دستوريا كان يمنح الجيش حق حماية الديمقراطية والدولة العلمانية، وكان هذا النص هو الثغرة التي يدخل من خلالها الجيش كل مرة للانقلاب على الديمقراطية وحل الأحزاب والسيطرة على مقاليد الحكم بحجة حماية الدولة العلمانية، ثم أعاد تشكيل المحكمة الدستورية بما يلغي وجود اثنين من القضاة العسكريين في أعضائها، لتكون محكمة مدنية خالصة، ثم أعاد تشكيل مجلس الأمن القومي لتكون الغلبة فيه للمدنيين وليس للعسكريين، ثم جعل اجتماعات المجلس ومجلس الشورى العسكري تتم في مقر رئاسة الوزراء وليس مقر قيادة أركان الجيش لترسيخ فكرة أن القرار هو قرار الحكومة المدنية المنتخبة وليس قرار الجنرالات، وتفاصيل أخرى كثيرة، نجح من خلالها في قص ريش النفوذ العسكري في الدولة، لحصر الجيش ودوره في حماية حدود الوطن، ثم تجرأ وأحال قيادات عسكرية للقضاء بتهمة التحضير لانقلاب وتمت إدانة بعضهم بالفعل، غير أن الموقف كان مذهلا في دلالته والناس ترى قوات الشرطة تعتقل جنرالات في الجيش، لدرجة أن الأتراك أنفسهم كانوا غير مصدقين أن يحدث ذلك، بعد أن كان المعتاد أن قادة الجيش هم الذين يعتقلون السياسيين ويحاكمونهم ويقيلون رؤساء الوزارات والجميع يهابهم ولا يجرؤ على الوقوف في طريقهم، وعندما أصدرت قيادة أركان الجيش تحذيرا في العام 2013 للأحزاب السياسية بعد توترات شهدها الشارع افتعلها حزب الشعب الجمهوري ـ حزب أتاتورك ـ، خرج المتحدث باسم أردوغان لكي يوبخ قيادة الأركان ويدعوها لاحترام الدولة المدنية والدستور وأن لا تتجاوز دورها الوطني المحدد دستوريا، وقال أن ما كان يجري سابقا لم يعد ممكنا ولا مقبولا الآن، كان الرد صاعقا للجنرالات، وأعقبه أردوغان مباشرة بالدعوة لانتخابات عامة مبكرة، وفاز فيها هو وحزبه باكتساح، فاعتبر ذلك تصويتا شعبيا على ما جرى، أنهى هيبة الجنرالات وطوى صفحة هيمنتهم على الحياة السياسية .

وعلى الرغم من ذلك كله، إلا أن تركيا لم تسلم من عسكريين كانوا يرتبون في الخفاء خططا بالغة الخطورة لاعتقال أردوغان وقلب نظام الحكم في تركيا والسيطرة على البلاد، والمثير أن هذا المخطط كانت تديره جماعة دينية متغلغلة في مؤسسات الدولة وأجهزتها.