إيران.. المشهد الأخير من حياة أحد المحتجّين

أرقام من سفكت دماؤهم خلال الاحتجاجات لا تخبر بشيء أكثر من الأسماء فلم نكن نعلم شيئًا عن قصة هؤلاء القتلى والشجاعة التي طاردوا بها رجال الأمن المسلّحين الذين كانوا يطلقون صوبهم الرصاص.

بقلم: شاهد علوي

كانت قصة حميد رسولي، الذي كانت أمُّه تناديه في المنزل بـ«حميد رضا» قصيرة للغاية. قبل بضع سنوات توجّه مع رفاقه إلى الجبال لممارسة رياضة المشي الجماعيّ، وبالقرب منهم كانت عدسات التلفزيون تقوم على إعداد برنامج تلفزيونيّ، فتوجّهت نحوهم، وسألته: ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟ فأجاب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة: «البطالة». لقد كان يقول الحقيقة، فهو عاطل عن العمل منذ سنوات، وأصبح ضجرًا بهذه الأوضاع. يوم الأحد الماضي توجّه إلى منطقة حسين آباد في مدينة كرج غرب طهران، ليقول إنّ من حقّه أن يكون لديه عمل، لقد ذهب ليحتجّ على الفقر والغلاء والبطالة وفساد النظام، لكنهم خطفوا رُوحه برصاصة حتى لا يحتجّ ثانيةً.

هذه القصة يرويها أحد أصدقاء حميد رسولي، ذلك الشاب الذي كان يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا، والذي ضحى برُوحه يوم الأحد، السابع عشر من نوفمبر لعام ألفين وتسعة عشر، احتجاجًا على الحقّ الذي غُصِبَ منه، فقد كان حميد أحد الذين خرجوا في منطقة حسين آباد في مدينة كرج للاحتجاج على الحرمان والفقر والتمييز، ولكن رجال الأمن هاجموا جموع الناس، وبدؤوا بقمعهم، وكان لهذا القمع في تلك الليلة معنى واحد، ألا وهو الرصاص في مواجهة الشعارات، وكان حميد رسولي أولى ضحايا تلك المواجهة.

بحسب إحصائيات منظمة العفو الدولية، قُتل في مواجهات مدينة كرج أربعة أفراد على الأقلّ، ومن قبل كان موقع «إيران واير» قد أعدّ تقريرًا إحصائيًّا أعلن فيه اسمَي اثنين من القتلى، والآن يجب إضافة اسم حميد رسولي إلى مهدي بابي، البالغ من العمر 31 عامًا، وشهرام معيني، البالغ من العمر 44 عامًا.

وكان مصدر في وزارة الداخلية الإيرانية قد كشف عن أن تقارير القائمقاميات في جميع أنحاء إيران تشير إلى أن عدد مَن قُتلوا على إثر قمع قوات النظام للاحتجاجات قد وصل إلى 200 قتيل مع حلول ظهر يوم الاثنين الماضي، كما ذكر موقع «راديو فردا» في تقرير له أن عدد القتلى في الاحتجاجات قد وصل إلى 138 قتيلًا في 31 مدينة حتى يوم الأربعاء الماضي.

لكنّ هذه الأرقام بخصوص من فقدوا أرواحهم خلال هذه الاحتجاجات لا تخبرنا بشيء أكثر من مجرّد اسم، فلم نكن نعلم شيئًا عن قصة هؤلاء القتلى قبل أن تلتقي تلك الرصاصات قلوبهم، هذه القصص التي ربما تكشف لنا عن الشجاعة التي حصل عليها أولئك الذين طاردوا رجال الأمن المسلّحين الذين كانوا يطلقون صوبهم العيارات النارية في مدينة شهريار دون خوف على حياتهم، هذه القصص التي ربما ستخبرنا عن أولئك الذين ما كانوا ليتركوا المكان، وواجهوا الموت في مدينة مريوان، غير آبهين بوابل الرصاص، قبل أن تغصّ الشوارع بدمائهم.

لم تكن قصة حميد رسولي طويلة، فلم تمتدّ إلى أكثر من 32 عامًا، وكما يقول رفيقه كانت السنوات الأخيرة منها مليئة بالشعور بالمرارة بسبب البطالة والفقر واليأس: «كان حميد حاصلًا على دبلوم ميكانيكا، وعمل بهذه الشهادة بضع سنوات في أحد المصانع، وعندما ثُبِّتَ في عمله أقدم على الزواج، لكنه منذ بضع سنوات أصبح عاطلًا عن العمل مجددًا، لا أعرف، ربما أفلس المصنع الذي كان يعمل فيه. على أي حال أصبح حميد عاطلًا، وكان هذا الأمر يزعجه بشكل كبير».

دفعته هذه الأوضاع إلى التفكير بالهجرة، فقد كان يقول لرفاقه: «ليس من المقرر أن يتغيّر شيء في هذا المكان، وهؤلاء لا يهمّهم أمرنا من الأساس، ربما يمكننا العيش في مكان آخر، والحصول على ما حُرِمنا منه هنا». يقول رفيقه: «لقد أحيت هذه المظاهرات الأمل في قلب حميد، ربما كان يظنّ أن بالإمكان إحداث تغيير، أو أن يُجبَر النظام على التغيير، أو أن يُغيَّر النظام نفسه».

وُلِد حميد رسولي في مدينة قزوين، وهو في الأساس من العرق اللوري، ومنزلهم القديم الذي وُلِد فيه في مدينة طالقان، لكنهم عاشوا في قزوين لبضع سنوات، ومن ثمّ انتقلوا إلى مدينة كرج، لكنّ والديه عادا للعيش في قزوين مجددًا، وبقي حميد وزوجته يقيمان في كرج حيث انتهت رحلته: «لقد انتهت رحلته هنا، لكنهم حملوا جثّته إلى قزوين ودفنوها هناك».

سُلّمت السلطات جثة حميد رسولي لذويه يوم الثلاثاء الماضي شريطة أن لا يقولوا شيئًا لأحد عن سبب موته، وأن لا يرفعوا الشعارات في أثناء مراسم دفنه وفترة الحداد، وسمحوا لهم بأن يقيموا له مراسم الحداد في إحدى الحسينيات لكن تحت اسم «متوفى»، وبالطبع شارك رجال الأمن في مراسم دفنه.

يستشيط أحد الشباب من أقرباء حميد غضبًا، ويتحدّث بكلام لا يتحمّله رجال الأمن: «جرّوه بعيدًا وانهالوا عليه ضربًا وشتمًا، لقد أصبحوا متوحشين، لا يأخذون أي شيء بعين الاعتبار، فقد أردَوْا حميد قتيلًا، بينما لم يكن قد فعل شيئًا سوى الاحتجاج على البطالة والفساد والظلم، ولم يكن حتى يحمل السلاح، والآن هم يعاقبون كلّ من يسأل “لماذا؟”. لم تكن الفاشية شيئًا آخر سوى ما يفعله هؤلاء».

بعد الانقطاعات التي واجهها الإنترنت في إيران، أصبح من الصعوبة بمكان الحصول على أي معلومات حول ما يحدث في إيران هذه الأيام، فقد أخبرت شركة «نت بلاكز» التي تُصدر التقارير حول أوضاع الإنترنت في العالم بأنه بحلول يوم الخميس الموافق 21 نوفمبر 2019، وصل عدد ساعات انقطاع الإنترنت بالكامل في إيران إلى 100 ساعة، وحسب موقع هذه الشركة فقد وصل مستوى الوصول إلى الإنترنت حتى ساعة إعداد التقرير إلى 5% فقط.

أصدر مجلس الأمن القومي الإيراني برئاسة وزير الداخلية أمرًا بقطع الإنترنت بشكل كامل تقريبًا في إيران، ابتداءً من مساء يوم السبت 16 نوفمبر، وذلك للحيلولة دون إرسال الأخبار والتسجيلات المصورة حول الاحتجاجات إلى وسائل الاعلام الأجنبية وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يُلْغَ هذا الأمر حتى الآن، وقد سُدَّ الطريق أمام سماعنا القصص التي تذكّرنا بأنّ مَن وقفوا في مواجهة الرصاص وقُتلوا، ليسوا مجرَّد أسماء ننساها، بل كانوا بشرًا لهم قصصهم التي يجب أن نتذكّرها.

نشر في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية