لا يمكن ترميم نظام بومدين

من السهل التخلص من عهد بوتفليقة. الرجل كان معطوبا منذ فترة طويلة. الصعب هو ترميم النظام مجددا.

لن تكون الجزائر قادرة على انتخاب خليفة لعبدالعزيز بوتفليقة في الرابع من تمّوز – يوليو المقبل في غياب معجزة في عالم لم يعد فيه مكان للمعجزات. هذا عائد الى انّ البلد لم يعد مهيّأ لانتخابات رئاسية جديدة في غياب الهيئات المستعدة للاشراف على هذه الانتخابات، خصوصا الهيئات المحلّية في كلّ انحاء الجزائر.

 يشير ذلك الى انّ زمن بوتفليقة ولّى الى غير رجعة بعد سلسلة الأخطاء التي ارتكبها المحيطون بالرجل، خصوصا في السنوات الست الأخيرة، أي ابتداء من صيف العام 2013 عندما أصيب الرئاسة الجزائري المستقيل بجلطة دماغية حولته الى رجل مقعد.

ماذا تخفي مرحلة ما بعد عبدالعزيز بوتفليقة؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يعني، بين ما يعني، انّ الجزائر مقبلة على تطورات في غاية الاهمية في وقت يجري فيه تفكيك نظام بوتفليقة. تجري عملية تفكيك نظام بوتفليقة، وهو نظام مكّن الحلقة الضيقة المحيطة به ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية، في ظلّ محاولة انقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا النظام القديم الذي اسّسه هواري بومدين في العام 1965 بعد الانقلاب الذي أطاح احمد بن بلّة. ليس توقيف الجنرال محمد مدين (توفيق)، رجل النظام القوي الذي ازاحه المحيطون ببوتفليقة وسعيد بوتفليقة نفسه وآخرين مثل الجنرال عثمان طرطاق (بشير)، سوى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نظام انفجر من داخل.

دخلت الجزائر مرحلة انتقالية، تحت عنوان كبير هو كلمة الضياع. يصعب التكهن بما سيلي هذه المرحلة. هل يتفكّك البلد؟ هل يمكن للثورة الشعبية التي أدت الى منع بوتفليقة من ترشيح نفسه لولاية خامسة واجباره على الاستقالة ان تكون نواة لنظام جديد، نظام الجمهورية الثانية؟ هل يطلّ الإسلاميون برأسهم مجددا بعدما عجزوا ان يكونوا في واجهة الحراك الشعبي المستمرّ منذ اسابيع عدّة والذي تصدره شبان ومثقفون وكبار في السنّ أعطوا صورة مختلفة عن الجزائر وعن حيوية المجتمع فيها؟

كان ملفتا ان التظاهرات الأخيرة شهدت اطلاق هتافات من نوع جديد. لم يعد مطلوبا الانتهاء من عهد بوتفليقة ورموزه فقط. دلت هذه الشعارات على ان الشارع الجزائري يطالب بتغيير في العمق يشمل كلّ المؤسسة الحاكمة. معنى ذلك ان المطلوب التخلّص من النظام، بما في ذلك من احمد قايد صالح الذي يسعى الى ترميمه عن طريق التشديد على ضرورة التمسّك بالدستور. يعني التمسّك بالدستور، بالنسبة اليه، اجراء انتخابات رئاسية في الرابع من تمّوز – يوليو المقبل، على ان تتكرر في 2019 تجربة 1999 عندما قرّرت المؤسسة العسكرية اللجوء الى عبدالعزيز بوتفليقة كي تحمي نفسها اوّلا وكي تحمي النظام القائم ومرتكزاته ثانيا وأخيرا.

ثمّة علامة استفهام كبيرة تفرض نفسها. علامة الاستفهام هذه هي مستقبل الجزائر وهل الجزائر مهيّأة لنظام جديد يؤمّن حدّا ادنى من الاستقرار والطمأنينة لاولئك الذين ينزلون الى الشارع كلّ يوم جمعة منذ أسابيع عدّة؟ تكمن المشكلة في ان الندوة الوطنية التي طرح عقدها المحيطون ببوتفليقة في محاولة يائسة لتمديد ولايته بعد عجزهم عن الحصول علي ولاية خامسة، باتت من الماضي. كان يمكن لهذه الفكرة ان ترى النور لو كان الهدف منها هدفا نبيلا وليس كسب الوقت لمصلحة افراد الحلقة التي تولت ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية منذ صيف العام 2013.

كان يمكن لمثل هذه الندوة الوطنية ان تكون مخرجا. كان يمكن ان تناقش، في حضور القوى الفاعلة في الجزائر، بما في ذلك شخصيات محترمة ذات تاريخ وتجربة، مستقبل البلد والحاجة الى دستور جديد والى مرحلة انتقالية حقيقية بعيدة عن الفوضى والتجاذبات والضياع، كما يحصل الآن. بدل الندوة الوطنية، صار هناك احتكام الى الشارع الذي قرّر ان لا عودة الى نظام يديره العسكر من خلف، كما كانت الحال في عهد الشاذلي بن جديد، بين 1979 و1991. او تديره "عصابة"، على حدّ تعبير احمد قايد صالح، كما حصل في عهد بوتفليقة بين 1999 و2019، ولكن بغطاء من المؤسسة العسكرية.

في غياب القدرة على ممارسة القمع وفرض رأيها القائل بان في الإمكان إعادة الحياة الى النظام القديم بمجرّد التخلّص من رموز عهد بوتفليقة، فضلا عن الاقتصاص من رموز أخرى مثل محمد مدين، تجد المؤسسة العسكرية نفسها في وضع لا تحسد عليه.

يعود ذلك الى انّ هناك هناك إدراكا في الشارع لواقع يتمثّل في ان السنة 2019 ليست السنة 1988 عندما قمع الجيش الانتفاضة الشعبية التي ما لبثت ان تحولت الى حرب أهلية استغلتها "جبهة الانقاذ الإسلامية" كي تبشّر بنظام جديد في أساسه "العودة الى الخلافة". كان طبيعيا ان تجد المؤسسة العسكرية في شعارات "جبهة الانقاذ"، بكلّ ما كشفته من تخلّف، فرصة للانقضاض على الثورة الشعبية التي حادت عن أهدافها وذلك بحجة "اجتثاث الإرهاب". في الواقع حمت المؤسسة العسكرية الجزائر وحالت دون سقوط الجمهورية. لكن الوضع يبدو حاليا مختلفا الى حد كبير، خصوصا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي من جهة وطبيعة الذين ينزلون الى الشارع من جهة أخرى. هؤلاء منعوا، اقلّه حتّى الآن، بقايا "جبهة الانقاذ" من ان يكونوا في الواجهة.

ولكن، ماذا اذا لم يتمكن المتظاهرون الذين اجبروا بوتفليقة على الاستقالة قبل نهاية ولايته والذين مكنوا المؤسسة العسكرية من القيام بحملة التطهير التي تقوم بها حاليا والتي طالت رموز النظام البوتفليقي، من ان يجدوا من يتحدّث باسمهم ويقول ماذا يريدون فعلا؟ لا شكّ ان رحيل احمد قايد صالح يشكل طلبا مشروعا. الرجل، الذي يسعى الى ترميم النظام، ليس جنرالا بارزا ولم يمتلك في يوم من الايام ثقلا كبيرا داخل المؤسسة العسكرية. كلّ ما فعله انّه ادّى الدور المطلوب منه، علما انّه كان بين الذين اعتمد عليهم الرئيس المستقيل والمحيطون به طوال سنوات في إيجاد غطاء عسكري لممارساتهم.

انّه بالفعل وضع محيّر في الجزائر. سيبقى على هذا النحو الى ان يجد الشارع شخصية او شخصيات تمثله وتعبّر عن طموحاته. من السهل التخلص من عهد بوتفليقة. الرجل كان معطوبا منذ فترة طويلة، كما ان افراد جماعته ارتكبوا كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها في اقصر مدّة زمنية. الصعب حاليا ترميم النظام مجددا، وهو ما فعله عبدالعزيز بوتفليقة في 1999، على طريقته وبشروطه. بكلام أوضح، لا يمكن ترميم النظام القديم الذي اسّسه بومدين. هذا لا يمنع التساؤل من يحدد ما المطلوب من اجل قيام الجمهورية الثانية وعلى ايّ أساس ستقوم هذه الجمهورية في بلد عاش على الاوهام والشعارات الفارغة واعتبر دائما ان الهروب الى الخارج كفيل بحلّ مشاكل الداخل.