لبنان، زمنُ الجياد الهَرِمَة!

حزب الله ليفعل ما فعلته طالبان عملت صلحاً وتفاهماً مع واشنطن بل على الأقل تفهُّماً وليونة إذا كان في الأمر مصلحة للبنان واللبنانيين لكن ذلك يتطلّب إقناع أولياء الأمر بطهران.

بقلم: عبدالرحمن عبد المولى الصلح

الوجوم الذي ساد المؤتمر الصحفي للرئيس حسان دياب أثناء تلاوته البيان المتعلق بعدم التسديد (السبت 07-03-2020) أعطى انطباعاً وكأننا في مأتم أو أن شرف الدولة اللبنانية قد هُتِك، علماً أن ذلك الشرف قد هُتِكَ منذ سنوات من قبل الطبقة السياسية الحاكمة التي لم ترأف لا بالوطن ولا بالمواطنين بل حرصت كل الحرص على مصالحها الشخصية. صحيح أن الوضع مأساوي لكن في الوقت نفسه فإن الوضع يتطلّب حزماً وعزماً أنا على يقين أن الرئيس دياب سوف يكون أهلاً له. ولا ندري سبباً لهذه التغطية السياسية غير المسبوقة، والتي سبقت انعقاد مجلس الوزراء. دولٌ عدّة، شهدت تعثُّراً بالدفع ولم تشهد تلك "الهيصة" والتغطية السياسية. اجتمعت السلطات الثلاث في القصر الجمهوري لتغطية قرار عدم التسديد قبيل اجتماع مجلس الوزراء.

كان ينقص وجود الشيخ نعيم قاسم ممثل السلطة الرابعة، والتي لا تحكم فقط بل تتحكم بمجريات الأمور، خاصّة وأن الشيخ قاسم قد عارض في أكثر من تصريح تدخّل صندوق النقد الدولي وكأنه خبير مالي واقتصادي. إذا سلّمنا جدلاً أننا في بلد ديموقراطي فكان يكفي فقط أن تأخذ الحكومة القرار المناسب بصفتها الممثلة للسلطة التنفيذية علماً أن الحكومة تضمّ نخبة من الوزراء المميزين وعلى رأسهم رئيس الحكومة. في العودة إلى تلك التغطية السياسية التي لم يسبق لها مثيل كان ينقص أن يتم أيضاً الحصول على موافقة ومباركة رؤساء الطوائف ال 19 لمباركة قرار عدم التسديد! ولا عجب. أوَلم تقصد وزيرة الطاقة والمياه بالوكالة في الوزارة السابقة، ندى بستاني (الوزير الأصيل في مكان آخر) البطرك الراعي لأخذ بركته وعدم اعتراضه على ما سُمّي "بِـ وصلة المنصورية؟"

ولو كنت مكان غبطته لامتنعت، يومها، عن لقاء وزيرة الطاقة قائلاً أن مهام وهموم البطركيّة أهم وأعمق بكثير من وصلة كهربائية! وأن المنصوريّة ليست مقاطعة مسيحية مع التأكيد على أن البطركيّة المارونية هي بطركيّة اللبنانيين جميعاً. وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكَر فأودّ أن اسأل عمّا آلت إليه التحقيقات فيما يتعلّق بسدّ المسيلحة، فلقد تباهت وزيرة الطاقة آنذاك بالإنجاء الذي حققته بعد امتلاء السد بالمياه لكن لم يمضِ أشهر حتى تبيّن العكس! فالفضيحة أن المياه التي جمعها السد تبخّرت، الأمر الذي أثار التساؤل عن جودة الاعمال وأهمية إنشاء هذا السد في منطقة البترون ("النهار" 31-1-2020) وهذا ينطبق على سدود بريصا وبقعاتا الذي تبيّن وجود شوائب في الأعمال الإنشائية للسدّين. تُرى، لماذا لم تتم إحالة الموضوع على التفتيش المركزي؟ ومن يُحاسِب وزيرة الطاقة السابقة في حال ارتكابها لمخالفات أو تغاضت عنها أدّت إلى تبخّر المياه؟ تُرى، هل هنالك حياة لمن تنادي؟

في عودة إلى بيان الرئيس دياب أودّ قبل التعقيب على بضعة نقاط تضمّنها البيان أن أشير وبتجرّد أنّه أول رئيس حكومة منذ سنوات يضع النقاط على الحروف. المشكلة أن الحكومات السابقة لم تكترث لأخذ ما يلزم من إجراءات لوقف العجز بل سمحت بالتمادي في الصرف دون حسيب أو رقيب تلبية لمطالب شعبوية كاعتماد، على سبيل المثال لا الحصر سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 والتي ثبُت أن كلفتها تزيد على الملياري دولار بدلاً من 800 مليون دولار كما قيل يومها، إضافةً إلى الأربعين مليار دولار التي ذهبت هدراً على قطاع الكهرباء منذ عام 2008. لكن السؤال المهم لا بل الأهمّ لماذا لم يبادر العهد الحالي - وهو الذي وصف بالعهد القوي- لوضع الأمور في نصابها منذ اليوم لتولّي الرئاسة؟

حين أتى رئيس الحكومة في بيانه على ذكر مشروع التغويز حبست أنفاسي كي لا يعزو ذلك إلى جهود وزير الطاقة الأبدي جبران باسيل - علماً أن جدوى إنشاء مصنع سلعاتا هو محط تشكيك وتساؤل من معظم الخبراء- كما فعل رئيس الجمهورية في بيانه قبل الحفل الفلكلوري الذي جرى على متن السفينة بمناسبة البدء بالبحث وليس اكتشاف النفط! وكما فاجأ باسيل منذ سنتين زوّار إحدى الكنائس في البترون بمجيئه إلى الكنيسة بمناسبة أحد الشعانين على ظهر حمار تماهياً مع السيد المسيح (ويا ليته يتماهى مع السيد المسيح ليس فقط بالشكل بل بالمضمون أيضاً)، كان مثيراً أيضاً أن يُفاجأ وزير الطاقة الأبدي المدعويين على تلك الباخرة بحضوره والمشاركة بالاحتفال هو الذي لا يقوى على البقاء بعيداً عن الأضواء!

أوضح رئيس الحكومة أنه حريص على أموال المودعين مع التشديد على حماية ودائع الصغار منهم. هذا التمييز، ولعمري، بين صغار المودعين وكبارهم ليس عادلاً، فهو مخالف لأبسط الحقوق، فالمودع هو المودع بصرف النظر عن قيمة وديعته. فلا شك أن الموضوع استنسابي. فعلى أي أساس يتم تصنيف المودع بالكبير والآخر بالصغير؟ هل يُوصَف المودَع بالكبير إذا كانت وديعته مثلاً تزيد عن 250 ؛ 500 الف أو حتى أكثر من مليون دولار؟ ثم أن هنالك من يجادل أن هذا المودع قد يكون بحاجة إلى ماله أكثر من المودع الصغير في ضوء أعماله التجارية، ارتباطاته العائلية والاجتماعية، وحرصه على دعم المؤسسات الخيرية وما شابه. المطلوب حماية المودعين دون تصنيف بين كبير وصغير، علماً أنه منذ بدء الأزمة ولحينه فلقد صدرت عشرات التصاريح من كبار المسؤولين وأولهم رئيس الجمهورية تؤكّد الحرص على حماية الودائع، كل الودائع.

ذكر رئيس الحكومة عزمه على مكافحة الفساد بعد استشرائه (فبحسب "الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية"  فلبنان "يرسب" للعام السابع مع علامة 28/100 محافظاً على المرتبة 137/180. "النهار 24-1-2020" ) قائلاً أنه في صدد إنشاء لجنة تتمتّع بكافة الصلاحيات لمكافحة الفساد. وهذا أمر يُشكَر عليه. (يُقال في العاميّة برطيل، والإيضاح البرطيل لغويّاً هو حجر صلب مدوّر إذا أُلقِيَ في فم المتكلّم يمنعه من النّطق والتكلّم)، لكني كنت أتمنى على رئيس الحكومة التي أقدّر واحترم أن يُبدي العزم على نبش الملفّات والأوراق ومحاسبة الفاسدين الذين عاثوا فساداً في كل القطاعات دون استثناء. لكنّ ذلك يبدو وكأنه حلم ليلة صيف!! فأغلب الظن أننا قد نرى فاسداً صغيراً - وليس كبيراً حتّى- وراء القضبان ولكن، بعد أن يبلغ فينا العمر عتيّاً، ويكسو الشيب شعر رأسنا... لنردّد مع الثائر التونسي والذي انتشرت صورته عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهو يصرخ في أحد شوارع العاصمة التونسية بعد رحيل بن علي: "لقد هرمنا... هرمنا، من أجل تلك اللحظة التاريخية!" لا يختلف اثنان أن مكافحة الفساد لن تتم بين ليلة وضحاها، ولقد أصاب الرئيس دياب حين وصف الفساد الذي وصلنا إليه بالفجور بعدما كان خجولاً. صحيح أن إجراء وتشكيل لجنة لمكافحته خطوة أولى، لكن لن يستقيم الوضع في المدى الطويل إلا بتعزيز الديموقراطية. فكلّما كثُرَ ملح الديموقراطيّة... خفّ فساد السلطة! والعكس هو الصحيح.

ذلك أنّ جرعات الديموقراطية تخفف آلام الفساد لا بل تقضي عليه. وكان الراحل الكبير غسان التويني كتب قائلاً أن عدم الكشف عن الفساد ومحاكمة الفاسدين يغدو وكأننا في ديكتاتورية مقنّعة ("النهار" 12-2-1994). والواقع أن المشكلة الأساسية في عدم تطبيق القوانين المتعلّقة بمكافحة الفساد وعم اقتناع العباد بجديّة المسؤولين في وضع الأمور في نصابها، يكمن في غياب الحياة السياسية، بمعناها الصحيح، والدليل على ذلك أن مجلس النواب منذ حصولنا على الاستقلال لم يكن جهازاً رقابيّاً واشتراعيّاً بالمعنى الصحيح كما هو مُفترَض وإنما أضحى مجمّعاً طائفيّاً ومناطقيّاً. فغابت المساءلة والمحاسبة! ذلك أن جوهر الديموقراطيّة يتخطّى إيديولوجيّات الطائفيّة والمذهبية والعرقيّة، ليعبر إلى ضفاف الحرية والعدالة دون اكتراث لمسار سياسي متحجّر يقيّد آفاق المستقبل وتطلّعاته. من هنا الدعوة على أن لا تنكب الجهود فقط إلى هيكلية الدين العام... بل إلى هيكلية النظام السياسي! وهذه مهمّةٌ جسيمة وجليلة، أأنا على يقين أن الرئيس دياب فيما يتمتّع به من كفاءات هو أهلٌ لها. أوليس على قدر أهل العزم... تأتي العزائم؟!

ذكر الرئيس دياب عزمه على رفع السريّة المصرفيّة للذين يعملون في القطاع العام ويا حبّذا لو يسري ذلك على جميع المواطنين للتأكّد من شفافية ودائعهم ذلك أن أغلب الظن فإن الموظف العام الذي جمع أموالاً بطرق غير مشروعة قد عمل على توزيعها على عدة أفراد!

حسناً، أخذنا علماً بعدم التسديد، لكنّ السؤال الأساس يكمن من أين نأتي بالتمويل لتنشيط الاقتصاد. ذلك إن عدّة دول كأوكرانيا مثلاً تجنّبت تطبيق ال Hair Cut  لأنّه يُسبّب الانكماش بينما المطلوب زيادة النموّ وتنشيط الدورة الاقتصادية. ولقد صَمَّ الشيخ نعيم قاسم أذاننا بمعارضته للاستعانة بصندوق النقد الدولي ناعتاً إيّاه بأبشع الصفات مُندِّداً بسياسات أميركا الاستكبارية، ولا أدري سبباً لهذه الحساسية من كل شيء أمريكيّ ! وكان أمين عام حزب الله قد دعى إلى مقاطعة البضائع الأمريكيّة في خطابه الأخير عن قاسم سليماني، علماً أن السيارة التي أقلّت جثمان سليماني إلى مثواه الأخير كانت سيّارة أمريكيّة!! ويقيني أن الشيخ قاسم يدرك أن المصالح بين الدول والجماعات تتحكّم بمجرى الأمور، والدليل على ذلك الصُلح الذي عقدته مؤخّراً "طالبان" الأفغانية والتي لطالما وصمتها واشنطن بالإرهابية.

لا نطلب صُلحاً بين "حزب الله" وواشنطن كما فعلت "طالبان" بل على الأقل تفهُّماً وليونة إذا كان في الأمر مصلحة للبنان واللبنانيين لكن ذلك يتطلّب حتماً الدخول في محاولات حثيثة مع "المركز" أعني طهران لإقناع أولياء الأمر هناك بأهميّة التحسّس والتماهي مع المصالح اللبنانية. إنها لغة المصالح. أورد على ذلك أكثر من شاهد فلقد يتفاجأ الشيخ نعيم قاسم أنه في الوقت الذي يُقتَل فيه مقاتلي "حزب الله" دفاعاً عن نظام الأسد (وكان آخرهم 14 مقاتل في ربيع العمر...) فإنّ الأسد لا يمانع في بيع "حزب الله" ففي مذكّرات وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري كما نقلت "رويترز" فإن كيري ضغط على الأسد لدعم حزب الله اللبناني فأجاب الأسد "أن كل شيء يمكن التفاوض عليه" ("النهار" 5-9-2018).

 أما الشاهد الثاني، فقد جاء على لسان جاك سترو وزير الخارجية البريطانية السابق حين كشف أن إيران واسرائيل نسّقتا وتعاونتا مباشرةً في المجالات العسكريّة والاستخباراتية لتدمير العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات حيث بلغت الصادرات الإسرائيلية من العراق لإيران حينها ما قيمته ملياري دولار(صحيفة العربي الجديد) الصادرة في لندن نقلاً عن التلفزيون العربي "21-2-2020".

المهام جسيمة والطريق للإنقاذ اشبه بطريق الجلجلة لصعوبتها ولا يخالجني الشك بأننا سوف نصل إلى برّ الأمان لأنني على يقين بأن رئيس الحكومة حريص أن يوصَف برجل الإنجازات وله من الصفات الحميدة ما يُثبِت ذلك. ولعلّه من المفيد التذكير بأنه صرّح بعدم نيّته للترشح للانتخابات النيابية وفي ذلك تعزيز لنيّته أن لا مصالح شخصيّة له. في قول للرئيس الفرنسي الراحل رينيه كوتي..."الفرق بين رجل الدولة ورجل السياسة أن الأول يريد أن يعمل لوطنه، أما الثاني فهو من ينتظر أن يعمل وطنه له!" ويقيني أن الرئيس دياب هو من الصنف الأول.

أخيراً وليس آخراً فعلى سيرة الفساد الإداري والرشوة خطر بالبال "قرداية" أطلقها شاعر جنوبي في منتصف خمسينات القرن الماضي قائلاً: "يا مدير الاقتصاد الوطني/ قل لي كيف صرت غني؟/ لم تهاجر لم تتاجر لم ترث عن أبيك سوى الرّسنِ" ويقيني بأننا اليوم اذا رغبنا باستبدال مدير الاقتصاد الوطني فإنّ مئات من السياسيين والنافذين ومسؤولين القطاع العام بالإمكان أن يحلّوا مكانه! تُرى أي زمن هو هذا؟ لعلّه، زمن الجياد الهرمة- والهَرَم ليس لتقدُّمها فقط في السن -فهناك جياد هرمة ولو أنّها في منتصف العمر- هَرِمَة لانغماسها بالصفقات والفساد والرشوة والمحسوبيّة والاستئثار بالسلطة والطائفية والأقلوية والشوفينيّة. جيادٌ، آن الأوان أن تُسأَل وتحاسَب، علّنا... نرتاح ونستريح!

نُشر في النهار اللبنانية