لبنان.. الفن والسياسة والدين

الحكايات التي تروى في الكواليس عن تحالف رجال الدين مع رجال المال والسلطة تمر مرور الكرام على الرغم من أنها تكاد تنقل تجربة آل بورجا من القرن الخامس عشر الأوروبي إلى القرن الحادي والعشرين اللبناني.

بقلم: فارس خشّان

في الثاني عشر من يوليو الجاري، نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية تحقيقا عن "تحايل" المسيحيين اللبنانيين الذين يرغبون بالطلاق على المحاكم الروحية، بحيث يعمدون، ومن أجل تحقيق هذا الهدف إلى تغيير طوائفهم، ولو لمرحلة عابرة، من أجل أن يتمكنوا من الحصول على الطلاق. وتضمن هذا التحقيق معطيات "مخجلة" تطال المحاكم الروحية والمحكومين باللجوء إليها.

ولكن، من دون أن ينكب المعنيون للرد على هذا التحقيق، بصورة أو بأخرى، كانت المفاجأة أن هجمة استعملت فيها مصطلحات التهديد الترهيبي، استهدفت فرقة فنيّة تطلق على نفسها اسم "مشروع ليلى"، بعدما أدرجت على قائمة "مهرجانات جبيل الدولية"، على اعتبار أنها تشجّع "المثلية الجنسية"، وتهين المقدسات المسيحية، وتسخر من العقيدة، سواء في أغنيتين أم في منشور على موقع فيسبوك أم في نوعية الجمهور.

وتحالفت المرجعيات الدينية المعنية مع القوى السياسية التي تحمل راية الدفاع عن حقوق المسيحيين، وأنشأت "محكمة تفتيش" استدعت إليها فرقة "مشروع ليلى" وألزمتها، في حال شاءت أن تبقي على حفلها الغنائي، بحذف الأغنيات "المسيئة" والمنشورات فيسبوكية "المهينة" والتوقف عن تشجيع "المثلية الجنسية"، وتقديم اعتذار علني.

وانقسم المجتمع اللبناني "المتكلّم" بين مؤيد للقمع وبين رافض له، فيما التزمت السلطة الصمت "السلبي" على اعتبار أن "أول حجر" إنما رماه هؤلاء المنتسبون إلى أحزاب لا تشارك في الحكومة، فحسب بل تشغل مقعد رئيس الجهورية، أيضا.

وحيّد القضاء نفسه، فلم يدافع عن حرية التعبير الفنّي في لبنان، طالما أنه لم يجد جريمة تستحق البحث القانوني، واضعا مصير "الفرقة الفنية" بعهدة المرجعية المسيحية التي برزت خصما لها.

هل تستدعي هذه المشهدية العجب؟

ببساطة، لا!

يحاول لبنان أن يقدّم لنفسه صورة لا تشبهه، فهو ليس بلد التسامح، بل بلد تتوزعه الطوائف التي تتصارع على مكتسبات السلطة.

وكل طائفة تسعى إلى فرض رؤيتها على المجتمع الذي يقع تحت قبضتها، وتجدها تتنافس، بالشروط نفسها، في ما بينها، من أجل إبراز عوامل القوة.

ومن أجل هذا الهدف، ترعى كل طائفة تناقضات خطرة في مجتمعها، فالهجوم على "فرقة ليلى" باسم "الضوابط الأخلاقية"، لا يراعي حقائق مسلكها، وثمة أمثلة كثيرة ومثيرة.

فالمثليون الجنسيون يحتلون مواقع متقدمة في كل المجالات (وهذا حق لهم)، وهم في الاحتفالات الدينية، يجلسون على المقاعد الأمامية وبعضهم يطل على القنوات الدينية ليقدّم سيرة حياته قدوة للآخرين.

والفضائح "البشعة" التي ارتكبتها شخصيات سياسية تتربع على مجالس مذهبية، لم تمنعها من إشغال مقاعد وزارية ونيابية باسم طائفتها.

والحكايات التي تروى في الكواليس عن تحالف رجال الدين مع رجال المال والسلطة، تمر مرور الكرام، على الرغم من أنها تكاد تنقل تجربة "آل بورجا" من القرن الخامس عشر الأوروبي إلى القرن الحادي والعشرين اللبناني.

والحملة التطهيرية من "المتحرشين جنسيا بالأطفال" التي تعيشها الكنائس، برعاية مباشرة من البابا فرنسيس، ممنوع وصولها إلى لبنان، على الرغم من الحاجة الملحة إلى ذلك.

فرقة "مشروع ليلى" بذاتها لا تعني شيئا للكثير من اللبنانيين، وثمة غالبية لم تكن قد سمعت بها سابقا أو لم تكن قد استمعت إلى واحدة من أغانيها، ولكن استهدافها للأسباب التي أعلن عنها، فتحت "صندوق باندورا" أو على الأقل جعلت البعض يتذكر نصيحة السيد المسيح التي دوّنها الإنجيلي متى: "لِماذا تَرَى القَشَّةَ فِي عَينِ أخِيكَ لَكِنَّكَ لا تُلاحِظُ الخَشَبَةَ الكَبِيْرَةَ فِي عَينِكَ أنتَ؟"

إن المجتمع اللبناني، في غالبيته، طائفي وتاليا يفرض شروطه على كل من يسعى إلى لعب دور في الحياة العامة أو أن يطل على العامة، إلا أن ذلك لا يعني عدم السماح للمتخلفين عن السير بهذا النهج بالتعبير، بالفن، عن ذاتهم وعن رفضهم وعن غضبهم وعن رؤيتهم، خصوصا وأنّ صوتهم لا يمكن أن يقارن بآلاف فرق الأناشيد الدينية في الكنائس والمدارس، وأن ما يصدحون به يستحيل أن يخرق أصوات المناهج الأكاديمية التي يضعها رجال الدين.

في المقابل، لم تسجل سابقة، بيّنت أن أي عمل فنّي أجمع "الأخلاقيون" على وصفه بالهدام، قد قاد إلى حرب أو تسبب بارتكاب مجزرة أو حمى فاسدا من العقاب، في حين أن كل هذا يمكن وضعه في القائمة السوداء لأدعياء الدفاع عن الله وتعاليم رسله وأنبيائه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، بطبيعة الحال، فإنّ ما سميّ بـ"حرب الأيقونات" بين المؤمنين بها وبين رافضيها، في القسطنطينية، قد أسقطت آلاف الضحايا من أبناء الدين الواحد والطائفة الواحدة.

إن الخوض في هذا الموضوع يتسع لآلاف الصفحات، ولكن بما أن المقالات لا تتسع إلا لمئات الكلمات، لا بد من لفت النظر في الختام، إلى أن تحالف رجال الدين والسلطة في أوروبا ضد الفقراء والصالحين والمبدعين والفنانين، هو الذي فتح الباب أمام "العلمنة" التي يشيطنها رجال الدين في الشرق عموما ولبنان خصوصا.

إن أخذ طبيعة النظام الطائفي في الاعتبار لفهم ما يحصل في المجتمع اللبناني، لا يعني مطلقا السماح بالانقضاض على الفن الذي من طبيعته التمرد والخروج عن السائد، في وقت يتم التعاطي بإهمال هنا وبديهية هناك، مع التلوّث البيئي على كل مستوياته، ومع الفساد المالي على مختلف أوجهه، ومع الإرهاب ـ ولو لفظيا ـ إذا كان يناسب هدفنا.

نُشر في صفحة الحرة