لبنان.. المصلوب على خشبة الممانعة

حزب الله عارض الانتفاضة لأنه يمثّل السلطة مُتحفّظاً عن أي شكل من أشكال التغيير فهو نتيجة الحمولة العسكريّة التي تُحسَب له لا يحكُم بل يتحكَّم بالشأن المدني والعسكري.

بقلم: عبد الرحمن عبد المولى الصلح

الدولارات الأميركيّة التي تباهى بها أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير؛ بأن حزبه يملكها ليتمّ توزيعها على أنصاره، حفّزتني أن أقترح عليه بأن يدخّرها ليتمّ لاحقاً إرسالها إلى إخوانهم المستضعفين في إيران الذين انتفضوا مؤخّراً ضد زيادة اسعار البنزين 300%. الوضع في إيران - كما هو الحال في لبنان- من المرجَّح أن يشهد مزيداً من التأزّم. نحمد المولى أننا لم نشهد عنفاً في لبنان كما شهدت المدن الإيرانية. فبحسب وكالات الأنباء تخطى عدد القتلى في إيران المئتين وتم توقيف ما يزيد على ألف مواطن.

وكعادته لجأ النظام في إيران إلى أساليبه القديمة: القمع والتخوين! إنها مؤامرة أميركية! هي حجّة الملالي في طهران وكذلك في بيروت.

اقتصر وصف الإنتفاضة بأنها أميركية دون ذكر، كالعادة، بأنها صهيونية أيضاً. لا عجب، فتصريح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ما يزال في الذاكرة حين صرَّج لمجلة "لوبوان الفرنسية" 24-12-2018 "متى قُلنا أننا سنمحو إسرائيل؟ جدوا في شخص واحد في إيران قال هذا الكلام". ومؤخّراً ذكر علي خامنئي بأن أحداً ليس ضد اليهود. أمين حزب الله جَزَم أيضاً بأنّ وراء الأكمّة ما وراءها ملمِّحاً أن الإنتفاضة تمتّ بصلة إلى مؤامرةٍ أميركيّةٍ ما.

تغاضى الاثنان أنّ الانتفاضة في لبنان، كما هو الحال في إيران والعراق، هي نتيجة الإحباط والقهر والتسلُّط والفساد وسوء الإدارة التي تُعاني منه الشعوب المعنيّة. لكن حسام الدين آشنا مستشار الرئيس روحاني أبلغنا تعليقاً على التظاهرات  أن إيران ليست العراق أو لبنان كأنه يقول بأن إيران "بريمو" والعراق ولبنان "تيرسو".

لم تهدف إنتفاضة 17 تشرين الاول اللبنانية إلى تغيير النّظام (كما هو الحال في الجزائر والسودان) - خاصة وأنها لا تملك قيادات بديلة - بل طالبت  بإصلاحه وإقصاء طبقة سياسية تربطها شبكة مصالح خاصّة ومتعدّدة.

هي ليست ثورة بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنّ الحراك ليس بمقدوره استلام السلطة والحلول محل الطبقة السياسيّة الحاكمة. إضافة إلى أن تركيبة المجتمع اللبناني القائمة على تعدُّديّة الطوائف لا تسمح بتغيير النظام عبر انتفاضة أو حراك سياسي، ومع ذلك فهناك من وقف عائقاً بوجهها بدلاً من أن يتلقّفها ويعمل على تحقيق مطالِبها. عارض "حزب الله" بل اعترض على الانتفاضة لأنه يمثّل السلطة كي لا نقول التسلّط مُتحفّظاً عن أي شكل من أشكال التغيير متمسّكاً بالحكومة الحالية ورافضاً إجراء انتخابات نيابيّة مُبكرة. ولا نكشف جديداً بالقول أن "حزب الله" نتيجة الحمولة العسكريّة التي تُحسَب له فهو لا يحكُم بل يتحكَّم بمجريات الأمور من مدنيّة وحتى عسكريّة.

هذا لعمري، لم يحدث في أي جمهورية منذ نشوء الدول الوطنية حيث وجود جيشان في دولة واحدة! وإذا كان الأمر كذلك فالسؤال الذي يثير الحيرة عن أسباب تصلُّب "حزب الله" في عدم حلحلة الأمور والسير بحكومة كما يريدها المنتفظون، فهو بحكم موقعه، باستطاعته اسقاط أيّة حكومة بالطرق الذي يرغبها في الوقت الذي يشاء!

نذكُر على سبيل المثال لا الحصر أن "حزب الله" لم يستشر أحداً حين أرسل مقاتليه إلى سوريا وساهم في تثبيت بشار الأسد في حكمه ولم يستشر أحداً فيما يفعل في العراق واليمن! واذا كان هاجس "حزب الله" يعود إلى مؤامرة أميركية من هنا او هناك فيجب التذكير بأن العلاقات الأميركية مع راعيه الإيراني كانت دافئة وشهدت أكثر من شهر عسل. وبالإمكان الاستشهاد بالتنسيق الأميركي الإيراني أثناء الإنسحاب الأميركي من العراق. علاقات الود التي جمعت بين إدارة أوباما والنظام الملالي التي أدّت إلى الوصول إلى الاتفاق النووي.

قد تتحقق مطالب انتفاضة 17 تشرين الأول أو لا تتحقق، يكفي أنها أضاءت شعلة التغيير والتي إذا خَفُتَت إلا أنّ أثرها سيظلّ ساطعاً في التاريخ السياسي اللبناني. يكفي إنها جمعت اللبنانيين في بوتقة واحدة متخطّية الحواجز الطائفيّة والمذهبيّة وجعلتهم يتمسّكون بلبنان الواحد الموحَّد... مطالبة الإنتفاضيين بإقرار قانون الأموال المنهوبة ذكّرتني بما كتبه الراحل الكبير غسان التويني منذ ستة وستون عاماً عن قانون من أين لك هذا؟ كتب التويني قائلاً ..."وبعد، فقد لا يُطعِم قانون "من أين لك هذا؟" الجياع، وقد لا يؤمِّن عملاً للعاطلين ولكنّه سيعيد إلى الجياع والعاطلين أملهم بالدولة، وحتى إن لم يعد إلى الدولة الأموال المسروقة"("النهار" الأربعاء 18 شباط 1953).

أضحى ثابتاً وواضحاً أن الضوء الأخضر لتأليف الحكومة سوف يأتي حكماً من طهران. العامل الإقليمي ليس بجديد في الحياة السياسية اللبنانية. هنالك شواهد على ذلك. فعلى سبيل المثال لا الحصر فنتيجة أزمة 1958 تمّ إنتخاب الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بتوافق أميركي مصري ولعلّ ذلك كان القرار الصائب لما تمتّع به الرئيس شهاب من رؤيا وطنية واستقامة ونزاهة وتجرد وتصميم على بناء دولة الاستقلال.

في السياق نفسه فالثابت أيضاً أن انتخاب الرئيس بشير الجميل عام 1982 ما كان ليُبصِر النور لولا التدخّل العسكري الإسرائيلي حسب ما تذكر كل التقارير والدراسات عن تلك الفترة. أخيراً، فالتدخّل الإقليمي لم يغب عن انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2017، فليس سرّاً أن "حزب الله"، (ومن خلفه) الراعي الإيراني عطّل إنتخاب رئيس الجمهورية لما يزيد عن عامين لحين انتخاب الرئيس عون أثر تفاهماتٍ ما زلنا نرى تداعياتها.

أعدتُ مؤخّراً قراءة كتاب جوناثان راندل - مراسل "الواشنطن بوست": "حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي" 1984، وفيها يغطّي الأزمة اللبنانية (1975 -1978). يشير رانديل، والذي كان على صِلَة وثيقة بمراكز القوى في ما كان يُسمّى المنطقة الشرقية من بيروت، أن الزعماء اللبنانيين المسيحيين تغاضوا عن المصلحة العليا للوطن إرضاءً لمصالحهم الشخصيّة الأمر الذي تعارض مع المصلحة العليا للبنان. وخوفي أن يُعيد التاريخ نفسه من خلال ما يجري حاليّاً أعني التغطية السياسية التي يوفّرها "التيّار الوطني الحر" لممارسات وتوجّهات "حزب الله".

يرى موراس أن الوطن مودّات une nation c’est des amities  ويقول مالرو بأنه شراكة أحلام communauté de rêves. صحيح انه لا عواطف في السياسة لكن الصحيح أيضاً والظاهر أن المودّات والأحلام قد غابت وحلّ مكانهما أطماع ونزعة إلى السيطرة من قِبَل قوى إقليميّة. هذه المرّة جاء دور النظام الملالي في طهران، فالثّابت في التاريخ السياسي اللبناني أن الاستقرار في الوضع الداخلي مرتبط بالاستقرار الإقليمي ومنذ نشأة هذا البد الصغير وهو معرّض لتدخّلات إقليميّة تُشكِّل المسار ولعلّها مع الأسف تحدد المصير! وما نتمنّاه - خاصة وأن الإنهيار على مختلف المستويات- أضحى قاب قوسين، أن يستعيد "حزب الله" استثنائياً لبنانيّته على أمل إقناع الراعي الإيراني بخصوصيّة الوضع اللبناني وإستبعاد الهواجس أميركيّة كانت أو من أي مصدر آخر، على أمل إنقاذ السفينة بمن فيها! إذ ذاك، سيغدو التاريخ شاهداً له - وليس عليه- كما كان الحال عام 2000 بعد دحر العدوّ الإسرائيلي.

لبنان، هذا البلد الصغير مصلوبٌ على خشبة الممانعة وأهواء طهران. وهو يئنّ، يتألّم، ويتوجّع. تُرى أما آن له أن ينزل من على تلك الخشبة؟

نُشر في النهار اللبنانية