لبنان مشكلة لبنانية

لا يزال المنطق الاعوج الذي ساد لبنان في 1969، لدى توقيع اتفاق القاهرة، سائدا في 2019.

هذه سنة مهمّة في لبنان. انّها سنة ذكرى مرور نصف قرن على بداية السقوط اللبناني وصولا الى ما وصل اليه البلد من حال يرثى لها. ليس الهجوم الذي شنّه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله على المملكة العربية السعودية ودول الخليج قبل ايّام قليلة سوى تتويج آخر لما آل اليه الوضع اللبناني حيث سياسة غياب المنطق هي السائدة.

ليس معروفا ما الذي يمكن للبنان ان يجنيه من انضمامه الى محور الممانعة الذي تقوده ايران باستثناء البؤس والفقر وجعل كلّ لبناني يبحث عن مكان خارج لبنان لابنائه. هذا يشمل أبناء الطائفة الشيعية أيضا حيث بدأ يظهر تململ واضح من عجز "حزب الله" عن صرف الرواتب التي كان يخصصها لعناصره وافراد عائلاتهم وللمؤسسات التي كانت تروج لأفكاره وتقدّم بعض الخدمات. كلّ ما فعله الحزب، الى يومنا هذا يصبّ في قيام اقتصاد ريعي ينمو على حساب الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأبناء الطائفة في الوقت ذاته. يستهدف مثل هذا الاقتصاد القضاء على الاقتصاد اللبناني. يستهدف عمليا افقار لبنان وتحويله الى بلد منبوذ عربيا ودوليا. في الواقع، ليس ما فعله وما زال يفعله "حزب الله" سوى نشر لثقافة الموت في بلد طبع أبناؤه على ثقافة الحياة.

تكفي مقارنة لما كان عليه لبنان في الماضي، عندما كان يقصده الخليجيون، لتمضية عطلهم فيه ولبنان الحالي للتأكّد من انّ لبنان ليس سوى لبنان آخر بعدما حولته ايران الى "ساحة" لا اكثر. فمن لبنان تبثّ القناة التي انشأها الحوثيون في اليمن. ومن لبنان تبث غير فضائية موجهة الى هذه الدولة الخليجية العربية او تلك وتبث سموم الترويج للانقسامات المذهبية. في المقابل، كانت هناك مساهمة خليجية فاعلة في كلّ وقت من اجل تحسين وضع البنية التحتية اللبنانية فضلا عن تنشيط السياحة وقطاع الخدمات في مجالات شتى.

لم يعد لبنان مشكلة عربية وخليجية فحسب، بل اصبح لبنان مشكلة لبنانية أيضا. هناك الأمين العام لـ"حزب الله"، وهو لواء في "الحرس الثوري" الايراني، عناصره لبنانية، يهاجم السعودية ويحيي ذكرى مصطفى بدر الدين الذي يقف على رأس لائحة المتهمين باغتيال رفيق الحريري. ليس احياء ذكرى مصطفى بدرالدين سوى دليل على ان "حزب الله" مصرّ على تحويل لبنان الى تابع لإيران في وقت ليس للنظام القائم في هذا البلد منذ العام 1979 ما يصدّره سوى البؤس والخراب.

لا خيار آخر امام لبنان سوى العودة الى لغة المنطق والتعقّل بدل السقوط في فخّ المزايدات. لا يبدو ان مدة نصف قرن كانت كافية كي يتعلّم اللبنانيون شيئا عن بلدهم الذي كان مزدهرا في الماضي وأسباب هذا الازدهار. لعلّ اول ما يفترض بهم تعلّمه ان الذهنية التي أوصلت الى اتفاق القاهرة ما زالت هي الذهنية السائدة. حاول لبنان، الذي تخلّى في العام 1969 عن جزء من سيادته للمنظمات الفلسطينية المسلّحة، التعايش مع الضغوط التي مورست عليه عربيا. ليس صحيحا ان جمال عبدالناصر الذي رعا اتفاق القاهرة الذي وقعه ياسر عرفات مع قائد الجيش اللبناني اميل بستاني، الطامح الى رئاسة الجمهورية، تعلّم شيئا من هزيمة 1967. لو تعلّم ناصر القليل القليل من تلك الهزيمة، لكان اخذ موقف رجل الدولة الذي يقول صراحة انّه يرفض تعريض لبنان لخطر الانهيار بسبب تشريع السلاح الفلسطيني. ما لبث هذا السلاح ان انتشر في كلّ الأراضي اللبنانية وصولا الى حرب السنتين في 1975 و1976 ثمّ الاجتياح الإسرائيلي في 1982، وهو اجتياح اسّس لحلول السلاح الايراني مكان السلاح الفلسطيني.

لا يزال الامل مفقودا في الوصول الى حدّ ادنى من لغة المنطق على الصعيد اللبناني ما دام هناك سلاح غير شرعي يفرض نفسه بقوة على القرار السياسي ويمنع ايّ سعي جدّي الى استعادة الامل بقيام دولة طبيعية. ليس الموقف المضحك - المبكي لعدد لا بأس به من المسؤولين اللبنانيين من مزارع شبعا سوى دليل على غياب الدولة التي تعي تماما اين مصلحتها. قصة مزارع شبعا هي قصة تجارة بتجارة. هناك من يعتبر ان المتاجرة بلبنان وبمزارع شبعا مفيد له. هذا ما فعله النظام السوري في الماضي وهذا ما تفعله ايران حاليا.

اذا وضعنا جانبا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي قال أخيرا الكلام الذي يجب قوله عن مزارع شبعا، ليس هناك ما يوحي بانّ هناك من يسعى الى التصدّي لمنطق اللامنطق. فالرئيس سعد الحريري يجد نفسه حاليا في وضع دقيق. هناك موازنة مطلوب تمريرها وهناك شروط معيّنة لا بدّ من توافرها من اجل انقاذ ما يمكن إنقاذه من نتائج مؤتمر "سيدر" الذي اقرّ مساعدات للبنان. الثابت ان حصول لبنان على مساعدات، هو في حاجة ماسة اليها، مرتبط الى حدّ كبير باصلاحات محددة ومشاركة بين القطاعين العام والخاص وقبل أي شيء آخر المصالحة مع المنطق.

الأكيد ان البداية لا تكون بمهاجمة المملكة العربية السعودية. لا منطق في ذلك، مثلما ان لا منطق في اعتبار مزارع شبعا لبنانية. نعم هناك أراض يملكها لبنانيون في مزارع شبعا. لكنّ هذه المزارع محتلة إسرائيليا منذ العام 1967 نظرا الى انّها كانت سورية وقتذاك. دخل السوريون الى مزارع شبعا في منتصف خمسينات القرن الماضي بحجة مكافحة التهريب من جهة والتصدي لإسرائيل من جهة أخرى. ينطبق على مزارع شبعا القرار 242 وليس القرار 425 الذي نفذته إسرائيل في العام 2000 بشهادة مجلس الامن التابع للأمم المتحدة. اذا كان لبنان جديا في استعادة مزارع شبعا، ليس امامه سوى الطلب من النظام السوري توجيه رسالة الى الامم المتحدة في هذا الشأن. هذا هو الطريق السليم الواجب اتباعه ولا وجود لطريق آخر.

ليس امام لبنان حاليا سوى التصالح مع المنطق والاعتراف بانّ مشكلته الأساسية تكمن في انّه لا يزال يعيش في ظلّ اتفاق القاهرة. صحيح ان مجلس النواب الغى هذا الاتفاق في عهد الرئيس امين الجميّل، لكن الصحيح أيضا انّ مفاعيل هذا الاتفاق ما زالت حيّة ترزق. لو لم يكن الامر كذلك، لما كان ذلك الخطاب الأخير لحسن نصرالله عن القدرة على تحقيق انتصارات على إسرائيل في حين ان الانتصارات التي يستطيع "حزب الله" تحقيقها هي انتصارات على السوريين واللبنانيين.

لا يزال لبنان، للأسف، اسير منطق يعتقد انّ مسلّحين فلسطينيين اقاموا قواعد في منطقة العرقوب التي سميّت "فتح لاند" في جنوب لبنان سيحرّرون فلسطين... كل فلسطين. كانت النتيجة تحرير لبنان من اللبنانيين. لا يزال المنطق الاعوج الذي ساد في 1969، لدى توقيع اتفاق القاهرة، سائدا في 2019... ولا يزال لبنان ضحية منطق اللامنطق!