لبنان من الفراغ الى المجلس الرئاسي

سيناريو الفراغ الرئاسي يبدو مكررا، لكن لبنان هذه المرة هو المختلف.

ليست سابقة ان يدخل لبنان ظروفا مجهولة الحدود، فتاريخه يعج بالظروف الضاغطة ذات التأثير الخارجي، ويمكن القول ان ثمة استحالة لتمرير استحقاق ما دون اثر واضح لقوى إقليمية ودولية في تدبيره واخراجه وتنفيذه. لكن المفارقة اليوم هي غياب هذه الخاصية، بحيث يبدو وكأن لبنان ترك لمصيره دون أي التفاتة او رعاية، وان وجدت بعض ملامحها، فهي لا تعدو تقطيعا للوقت.

دخل لبنان اليوم مرحلة التهيئة للفراغ الرئاسي وهي الصورة الثالثة التي يمر بها لبنان بعد رئاستي اميل لحود وميشال سليمان. والمفارقة العجيبة هذه المرة انها تكرس فراغا بعد رئاسات اشخاص ذات خلفيات عسكرية كونهم أتوا من قيادة الجيش الى الرئاسة، وهي ظاهرة مكرسة عمليا في الحياة السياسية اللبنانية باعتبار ان ابرز مرشحي الرئاسة عادة ما يكون قائد الجيش. ورغم ذلك يأتي الاستحقاق الرئاسي وسط ضغوط غير مسبوقة. فالقوى الدولية والإقليمية الفاعلة لها انشغالاتها النوعية التي تستثمر في الازمة اللبنانية بشكل يعقد الأمور، فيما الأوضاع الداخلية ازدادت انهيارا ووصلت الى مرحلة تحلل المؤسسات السياسية والاجتماعية والإدارية للدولة، بل غيابها تماما.

والأكثر غرابة ان من يدير الازمة خارجيا وداخليا يتعمد في تأزيمها وايصالها الى فلتان امني بعد الاجتماعي والاقتصادي لفرض أي مشروع حل او تسوية ما على غرار ما حدث سابقا في مختلف مراحل الازمات اللبنانية الممتدة، الميثاق الوطني 1943 واتفاق القاهرة 1969 والوثيقة الدستورية 1976 والاتفاق الثلاثي 1985 ومشتقاته اللاحقة في جنيف ولوزان وسان كلو، وصولا الى اتفاق الطائف 1989 والدوحة 2008، وما يحكى عن إعادة فرز وضم للمشاريع بحلة جديدة ستكون مختلفة تماما، وبالتأكيد ستكون نتاج تسويات إقليمية ودولية ظروفها ووسائل نجاحها لم تتأمن حتى الآن.

ويبدو ان ظروف لبنان مجمدة حاليا لارتباطها بالعديد من المحطات، ظروف الانشغال بالحرب الأوكرانية، وتعثر مفاوضات البرنامج النووي الإيراني مع الدول الست، والانتخابات التشريعية النصفية الأميركية والتشريعية الإسرائيلية المبكرة، إضافة الى تشكيلة واسعة من الازمات الفرعية والمناسبات المتصلة، كل ذلك ما سيسهم في رفع منسوب تأزيم الواقع اللبناني وتأجيل البحث فيه الى آماد لاحقة.

لكن المشكلة الحالية اليوم لم تعد كسابق عهدها، فلبنان اليوم غارق في ظروف قاهرة جدا، ثمة تبدل وتغير نوعي في تركيبته الاجتماعية والديموغرافية وهي خواص شملت جوهر مشاكله وازماته سابقا، حيث كانت التركيبة دقيقة جدا ويعمل دائما للحفاظ عليها ضمن شروط السلم الأهلي البارد، فيما اليوم تلاشت وانتهت، حيث اللاجئون والنازحون يشكلون عددا موازيا لسكانه ان لم يكن اكثر بفعل غياب الضوابط، علاوة على تغير السلوك الاجتماعي والعادات والتقاليد وحتى تبعثر الثقافات، ما يعيد صورة سوداوية لأي نظام جديد سيرتب للبنان لاحقا. وما يزيد الأمر تعقيدا الوضع الاقتصادي المنهار كليا، ما يرتب أوضاعا وسلوكيات اجتماعية متفلتة امنيا وهي المرحلة التي تسبق الانهيار والتفجير الكبير المنتظر.

يشاع حاليا في الكواليس لإدارة الفراغ الرئاسي إعادة تعويم تشكيلة الحكومة حاليا بوزراء سياسيين ذات طابع نوعي، بحيث تتمثل جميع القوى الفاعلة في الحكومة التي يمكن ان تتسلم صلاحيات الرئاسة بعد الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول القادم، وعندها ستبدو الحكومة وكأنها مجلس رئاسي تدير انقاض دولة بانتظار ما سيقرر للإقليم لاحقا. ربما هذه الصورة التي تركب حاليا تناسب الجميع وهي صورة لصيغ كانت محط انظار البعض سابقا، ولم تسقط او تتلاشى حاليا، واليوم تشكل مناسبة لإحياء مثل هذه الطروحات.

يتعلق اللبنانيون اليوم في حبال الهواء بحثا عن حل لوضع لم يمر به مجتمع في تاريخ البشرية، شعب متروك لقدره، يعيش خارج التاريخ وأيضا خارج جغرافيا الدولة، فهل ما يحاك حاليا يشكل بداية حل؟ يبدو ان لبنان يعيش لحظات قبل الانفجار الكبير الذي يراهن البعض عليه لجذب وقبول الحلول.