للمشهد السياسي الفلسطيني أوجه متعددة

ممارسة الحق بالنقد ومواجهة كل أوجه الخلل والفساد في النظام السياسي والطبقة السياسية لا تكونان على حساب عدالة القضية.
الخلل في النظام والطبقة السياسية وليس في عدالة القضية والحق الفلسطيني
مقاربات متعددة تتدرج من الانحياز الكامل لطرف الى الالتزام بالحد الأدنى من الموضوعية
اي عقوبات تبقى رهينة موازين القوى ما يُطيل أمد الصراع كما هو حال القضية الفلسطينية

هناك مداخل ونظريات متعددة للتحليل السياسي ومنها الصراع والقوة، القانونية، التاريخية، الدينية، السسيولوجية، الثقافية، العلمية الموضوعية، التفاؤلية، التشاؤمية الخ. ونظرا لطول الصراع المتعلق بالقضية الفلسطينية فقد وظف كل طرف من أطراف الصراع كل المداخل والنظريات السياسية في الترويج لروايته التي تعزز ما يعتبره حقه بأرض فلسطين ونفي هذا الحق عن الطرف الثاني.

سنقارب في هذا المقال مسألتي أو مدخلي الموضوعية من جانب والتفاؤل والتشاؤم من جانب آخر في مقاربة التحليل السياسي للقضية الفلسطينية في الوقت الراهن.

أولاً: التحليل السياسي ما بين الموضوعية أو عدمها

لأن الموضوعية المطلقة مثلها مثل الحقيقة المطلقة شبه مستحيلة في الحياة السياسية والاجتماعية فإننا غالباً نكون أمام مقاربات متعددة سواء من المحللين السياسيين أو الباحثين أو وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، تتدرج من الانحياز الكامل لطرف على حساب الطرف الثاني، إلى مقاربات تحاول أن تلتزم بالحد الأدنى من الموضوعية أو تتغيا ذلك، فتسجل ما لكل طرف وما عليه من نقاط قوة وضعف ومدى توفر عنصر الشرعية عند كل طرف، حتى أصبح الاختلاف وتعارض المواقف والرؤى هو الطاغي على الشأن السياسي المحلي والدولي.

إلا أن هناك قضايا وإن لم تحض بالإجماع إلا أنها تستمد عدالتها من توافق أغلبية الآراء والمواقف السياسية. ففي الشأن الداخلي يمكن تلمس هذه القضايا من خلال التوافق الوطني على ما يسمى ثوابت ومرجعيات الأمة ويعبر عنها الدستور والقوانين والأعراف والضمير الجمعي، وحتى لو شذت بعض المواقف والآراء فيتم معالجتها بالحوار وبالممارسة الديمقراطية، وعلى المستوى الدولي والعالمي حيث تتوافق غالبية دول العالم على قضايا تنسجم مع القانون والشرعية والعدالة الدولية وهي قضايا غالباً ما يكون منصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والمواثيق والبروتوكولات الدولية الأخرى وتتوافق مع القيم والأخلاق الإنسانية، وحتى إن تغولت دولة أو عدة دول على الشرعية والعدالة الدولية منتهكة حقوق غيرها من الدول يتم اتخاذ قرارات دولية تتفاوت ما بين المقاطعة والعقوبات الاقتصادية وقد تصل إلى التدخل العسكري برعاية دولية، ولكن الذي يحدث أن هذه العقوبات تبقى رهينة موازين القوى داخل المنتظم الدولي وخصوصاً مجلس الأمن مما يؤدي لازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية، وهذا يُطيل أمد الصراع كما هو الحال مع القضية الفلسطينية.

عندما يصدر عن الأمم المتحدة عشرات القرارات بعضها يؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحقه بمقاومة الاحتلال وحق عودة اللاجئين وأخرى تندد بالاحتلال وبالاستيطان وتؤكد على عدم شرعيته كما ترفض سياسة الضم والتهويد، وعندما تصوت غالبية دول العالم (138 من أعضاء الأمم المتحدة) على الاعتراف بدولة فلسطين عضو مراقب في الأمم المتحدة وتعترف اليونسكو ومنظمات دولية وإقليمية أخرى بفلسطين دولة كاملة العضوية، وعندما تقرر محكمة الجنايات الدولية ملاحقة قادة إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وعندما تحتضن دول العالم أكثر من مائة سفارة لدولة فلسطين، وكلها قرارات ومواقف لم تأت عشوائياً أو ارتجالاً بل بنيت على مقاربات قانونية وتاريخية.

في هذه الحالة لا يمكن لمن يقول بهذه الوقائع ويؤكد عليها في تحليلاته وكتاباته إلا أن يكون موضوعياً ولا يمكن اتهامه بالانحياز لأن الانحياز للحق والعدالة لا يعتبر انحيازاً، ولأن المقاربة في هذه الحالة لا تنطلق من موقف مسبق أو انحياز أيديولوجي بل من وقائع وقرارات دولية تُقر بها غالبية دول وشعوب العالم وجاءت نتيجة دراسة معمقة للصراع في كل أبعاده، وعلى العكس من ذلك فإن القلة من الدول والأفراد ممن ينكرون على الشعب الفلسطيني حقه بالمقاومة وبدولة مستقلة ويشككون بتاريخه ونضاله هؤلاء أبعد ما يكون عن الموضوعية.

ثانيا: مقاربة التفاؤل والتشاؤم

هناك بعض المحللين السياسيين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين يوظفون دائماً مدخلاً ومقاربة تشاؤمية لا ترى في المشهد الفلسطيني إلا السلبيات كالانقسام والتراشق الإعلامي وتراجع وتيرة المقاومة والحديث عن فساد الطبقة السياسية وحالة الفقر واليأس والإحباط عند الشعب الخ. لا شك أن الوضع الفلسطيني الداخلي مؤلم ويثير الاستياء والغضب ويدعو للتشاؤم أحياناً والوجه السلبي المُشار إليه موجود ولا شك، وقد كتبنا وكتب كثيرون عن هذه السلبيات، ولكن هذه الظواهر لا تمثل كامل المشهد السياسي كما أن التركيز على الوضع الراهن والظاهر بمعزل عن تاريخ الصراع وتعقيداته ودون الأخذ بعين الاعتبار الجانب الآخر من المشهد فيه ظلم واجحاف بحق الفلسطينيين بل وهي مقاربة غير بريئة وغير موضوعية.

المقاربة التشاؤمية غير موضوعية لأن في المشهد الفلسطيني ما يدعو للتفاؤل وما يمكن البناء عليه لاستنهاض المشروع الوطني ومواصلة مقارعة الاحتلال، وفي هذا السياق يجب عدم تجاهل أهمية الرفض الوطني الشامل للسياسة الإسرائيلية والأميركية بما فيها صفقة ترامب-نتنياهو وسياسة الضم، وأن غالبية دول العالم ما زالت تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وهو ما تبدى في الموقف الدولي والعربي الرافض لهذه السياسة، تمسك الشعب والقيادة بالحد الأدنى من الحقوق التاريخية والوطنية كحق العودة والحق بدولة مستقلة، بالرغم من تردي الوضع على كافة المستويات لم نجد أي حزب أو جماعة فلسطينية ترفع الراية البيضاء وتنهي الصراع مع الاحتلال، ولو تخلى الفلسطينيون عن حقهم كما يزعم بعض المطبعين والحاقدين لكانت القضية الفلسطينية انتهت منذ عقود ولكان تم تمرير صفقة ترامب منذ الإعلان عنها.

بالرغم من الحرب الإسرائيلية المعممة على الشعب الفلسطيني وهي حرب توظف فيها اسرائيل أعتى الأسلحة العسكرية وقدراتها التكنولوجية والاقتصادية وتحالفها مع الولايات المتحدة، وبالرغم من مرور أكثر من قرن على وعد بلفور وثلاثة وسبعين عاماً من الصمود الفلسطيني الأسطوري على أرضه، فإن الصراع مع الاحتلال ما زال مستمراً، وهناك أكثر من ستة ملايين فلسطيني وهم أكثر من نصف الشعب الفلسطيني متشبثين ومنزرعين في أرضهم وعلى أرضهم التي ولدوا فيها جيلا بعد جيل وعددهم يقارب عدد اليهود المجلوبين من مختلف بقاع الأرض، وهناك النصف الآخر من الشعب الفلسطيني يعيش في الشتات وبالرغم من أن بعضهم ولد في الشتات إلا أنهم جميعاً يتمسكون بفلسطينيتهم ويفتخرون بها ويتفاعلون معها كما نسمع ونشاهد من نشاط الجاليات الفلسطينية في أوروبا وأميركا ومختلف بقاع الأرض.

وخلاصة القول نتمنى من كل المحللين والكُتاب والإعلاميين أن ينظروا للمشهد الفلسطيني الداخلي وللصراع بشكل عام بموضوعية بعيداً عن الأهواء الأيديولوجية والإغراءات المالية وسطوة الإعلام الموجه، كما نتمنى ألا يكون ممارسة الحق بالنقد ومواجهة كل أوجه الخلل والفساد في النظام السياسي والطبقة السياسية على حساب عدالة القضية وبما يشوه الشعب وقضيته العادلة لأن الخلل في النظام والطبقة السياسية وليس في عدالة القضية والحق الفلسطيني، كما نتمنى عدم سحب أو اسقاط المواقف الأيديولوجية أو الشخصية الحاقدة والرافضة لشخص ما في القيادة أو لكل القيادة على القضية برمتها، وأحيانا يكون الفاصل ما بين النقد والهدم قيد شعرة.