لماذا حسم معركة الحديدة ضرورة...

انّه عالم لا يرحم، خصوصا عندما يكون هناك منتصر.

ترتدي معركة الحديدة اهمّية خاصة وذلك لاسباب عدة. في مقدّم هذه الأسباب القيمة الاستراتيجية للميناء المطل على البحر الاحمر، إضافة الى ان سيطرة الحوثيين (انصار الله) عليه يوفّر لهم موارد كبيرة هم في اشدّ الحاجة اليها. يفسّر ذلك وضع "انصار الله" كلّ ثقلهم في هذه المعركة المستمرة وان على نحو متقطع منذ اشهر عدّة، منذ ايّار – مايو الماضي تحديدا.

الثابت ان تقدّما حصل في الايّام الأخيرة على طريق تحرير المدينة والميناء والمطار. لكنّ هذا التقدّم لا يبدو كافيا من اجل حصول ترجمة له على الصعيد السياسي وذلك في وقت دعا مارتن غريفيث مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الى جولة حوار جديدة بين اليمنيين في غضون اقلّ من شهر.

ليس سرّا ان غريفيث يلقى دعما اميركيا وبريطانيا في جهوده الهادفة الى عقد جولة جديدة من الحوار، علما انّه لم يحدّد بعد من هي الأطراف التي ستشارك فيه وهل سيقتصر الامر على "الشرعية" والحوثيين مع ما يعنيه ذلك من تجاهل لقوى حيّة كثيرة موجودة على الأرض في اليمن. بين هذه القوى من يشارك في معركة الحديدة الى جانب ما يسمّى "الجيش الوطني" التابع لـ"الشرعية".

ما لا بدّ من ملاحظته على هامش القتال الدائر، في ظلّ ازمة إنسانية تنذر بكارثة لا سابق لها في العالم، ان امام القوات الساعية الى تحرير الحديدة من قبضة "انصار الله"، الذين ليسوا في نهاية المطاف سوى أداة إيرانية، مهلة معيّنة لبلوغ الهدف. لا تتعدى هذه المهلة الشهر الواحد من اجل حسم موضوع الحديدة مع ما يتيحه ذلك من قيام وضع مختلف في أساسه تغيير في موازين القوى على الأرض.

سبق لمارتن غريفيث، الذي لا يبدو انّه يعرف الكثير عن اليمن وعن الحوثيين، انّ عرقل الحسم في معركة الحديدة. هناك ضغوط كبيرة مورست في حزيران – يونيو الماضي من اجل وقف القتال. ترافقت هذه الضغوط مع مفاوضات اجراها المبعوث الاممي مع الحوثيين في صنعاء ومسقط وأماكن أخرى. شملت هذه المفاوضات حوارات غير مباشرة بينه وبين زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي الذي يعتمد في عقد مثل هذا النوع من اللقاءات على الكاميرات التلفزيونية التي تعمل في اطار شبكة خاصة. هكذا كان يحاور علي عبدالله صالح في مرحلة ما قبل اغتيال الأخير في الرابع من كانون الاوّل – ديسمبر الماضي تنفيذا لحكم بالاعدام أصدره عبدالملك الحوثي نفسه مستندا الى رغبة لديه في الانتقام منه شخصيا.

هل يمكن لقوى "الشرعية" وتلك التي تدعمها من "حرس الجمهورية" و"لواء العمالقة" تحقيق حسم في الحديدة في غضون شهر؟ في غياب الحسم، سيكون الوضع صعبا ومعقّدا في آن. هذا يعود الى انّ هناك رغبة دولية في بلوغ تسوية في اليمن مع ما يعنيه ذلك من قبول بوجود كيان للحوثيين في الشمال. سيكون هذا الكيان شبيها بـ"الامارة الإسلامية" التي اقامتها "حماس" في قطاع غزّة منذ منتصف العام 2007 والتي افقرت اهل القطاع، الفقراء في معظمهم أصلا، وأغلقت في وجههم كلّ أبواب الامل والعيش في ظروف طبيعية في عالم افضل.

تذكّر مهلة الشهر من اجل حسم وضع الحديدة بتلك المهلة التي أعطيت لعلي عبدالله صالح في العام 1994. كانت تلك سنة مفصلية بالنسبة الى اليمن بعدما قرّر الحزب الاشتراكي، الشريك في السلطة العودة عن الوحدة. كانت هناك جهود دولية واقليمية تصبّ في دعم الانفصال في اليمن، لكنّه كان هناك في الوقت ذاته تواطؤ لدول كبرى مع الرئيس اليمني، وقتذاك، الذي كان مصرّا على استمرار الوحدة والدفاع عنها، عن حقّ او غير حقّ. كانت كلمة السرّ انّ عليه حسم الامر مع خصومه بسرعة. اذا لم يفعل ذلك، سيتوجب عليه التعاطي مع الوضع اليمني المستجد، أي مع الانفصال.

هناك ما يشبه حاليا الوضع الذي كان سائدا صيف العام 1994. لو لم تساعد الظروف علي عبدالله صالح في الحسم، لكان نظامه انتهى منذ زمن طويل، أي قبل العام 2011. لا شكّ انّه ادار الحرب على الانفصال بذكاء كان ينقص خصومه. في نهاية المطاف، استطاع وضع المنطقة والعالم امام امر واقع، خصوصا بعد مقتل آخر قائد عسكري جنوبي (صالح أبو بكر بن حسينون) بقي يشكل حاجزا في وجه سقوط المكلا... وعدن.

كان على علي عبدالله صالح الحسم خلال مهلة قصيرة. جعل تمكّنه من الحسم، العالم ينسى الانفصال والانفصاليين متجاهلا ان أخطاء ارتكبت من الجانبين في مرحلة ما بعد تحقيق الوحدة. انّه عالم لا يرحم، خصوصا عندما يكون هناك منتصر. فجأة نسي مجلس الامن ما ورد في قرارين اصدرهما في اثناء حرب الانفصال.

ما يمكن ان يحصل في السنة 2018، في حال عدم حسم معركة الحديدة، اسوأ بما كان يمكن ان يحصل في العام 1994 حين كان لا يزال هناك امل باستعادة الجنوبيين دولتهم ومباشرة تجربة جديدة قد تنجح او تفشل في الاستفادة من الأخطاء الضخمة التي وقعت بين 1967 أي منذ اعلان الاستقلال، وقيام دولة الوحدة في 1990. هناك بكل بساطة، في هذه الايّام، تواطؤ لقوى معيّنة مع الحوثيين بغية تمكينهم من وضع يدهم على جزء من اليمن وذلك بغض النظر عن الخطر الذي يشكلونه على الامن الإقليمي. لا يهمّ هذه القوى المتواطئة مع الحوثيين حجم الخطر الذي يشكّله هؤلاء. هناك تركيز على ضرورة تفادي الكارثة الانسانية في اليمن، بغض النظر عن الثمن المطلوب دفعه سياسيا والعلاقة القائمة بين "انصار الله" وايران وخطورة هذه العلاقة وانعكاساتها على السلم الاقليمي.

اذا لم تحسم معركة الحديدة بالسرعة المطلوبة، سيقف اليمن عند مفترق. سيصبح احتمال نشوء "امارة حوثية" في صنعاء ومحيطها وصولا الى الحديدة امرا في غاية الجدية. في المقابل، سيساعد اخراج الحوثيين من صنعاء في جعلهم يأخذون حجمهم الحقيقي. انّهم جزء من المكونات اليمنية. لا يستطيع احد الغاءهم نهائيا واخراجهم من المعادلة، لكنّه لا يحق لهم في أي شكل إقامة "امارة" خاصة بهم وتحويل مئات آلاف اليمنيين الى عبيد لديهم كما هو حاصل الآن. ليس لدى الحوثيين أي مشروع حضاري لليمن، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا تربويا. كلّ ما لديهم هو تجنيد مراهقين وأطفال ورميهم في جبهات القتال... وشعارات فارغة لا علاقة لها بالواقع.

انطلاقا من هذه المعطيات، يبدو حسم معركة الحديدة خلال الأسابيع القليلة المقبلة اكثر من ضرورة. وحده حسم المعركة يخرج اليمن من الصورة الضبابية السائدة حاليا ويمهّد للبحث عن صيغة جديدة للبلد، في اطار الوحدة او خارج هذا الاطار، صيغة تؤدي بالفعل الى تفادي الكارثة الانسانية وربّما، نعم ربّما، استعادة بعض الامل بالمستقبل. تبدو هذه الكارثة امر محتوما في غياب هزيمة عسكرية للمشروع الايراني في اليمن.