لماذا يكره أصدقائي قصيدة النثر؟

ما الذي فقده الشعر العربي العمودي بظهور الشعر الحر؟ وما الذي فقده بقصيدة النثر؟ وما الذي يبقى من الشعر العمودي في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر؟
كتب التراث تحكي عن أبي عمرو بن العلاء موقفا لطيفا
لم يكن الوزن مدار الخصومة بين القدامى والمحدثين

سؤال طرحته على نفسي كثيرا، وسألت عشرات من زملائي الذين أثق في رأيهم، واستمعت إليهم بصبر وحاورتهم بهدوء وتجاذبت معهم أطراف الحديث كي أصل إلى أسباب حقيقية وراء هذا الرفض.
ومئات المرات كتب أحدُ الناس منشورا على الفيس بوك مع / أو ضد قصيدة النثر، وتوالت عليه التعليقات متوترة وعصبية وعدائية وإقصائية وأحيانا تصل إلى حد التخوين والتشكيك في النزاهة العلمية أو الاتهام بالقصور العقلي أو عدم الوعي بمخطط الغرب الكافر. وفي التعليقات تجد عالما غرائبيا من الفهم المغلوط والمخاوف الكامنة مما لا علاقة له بالشعر، وتكون هذه فرصة للتخفف من ضغط هذه المشاعر الباطنية.
كنت أتابع مثل هذه المنشورات والتعليقات وأسأل: لماذا يحب هؤلاء قصيدة النثر؟ ولماذا يكرهها هؤلاء؟ وهل تعكس هذه الكتابات أسبابا حقيقية ومقنعة بهذا الحب والكراهية؟
ما الذي فقده الشعر العربي العمودي بظهور الشعر الحر؟ وما الذي فقده بقصيدة النثر؟ وما الذي يبقى من الشعر العمودي في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر؟
أسئلة كثيرة ومتداخلة كانت ومازالت تشغلني منذ بدأ اهتمامي بمظاهر التجديد الشعري، ومما زاد من انتباهي لهذه الأسئلة أن زملائي في الكلية كانوا – ولا يزالون - لا يبدون ارتياحا لهذا التجديد الشعري، ويصل بهم الحال – في كثير من الأحيان - إلى إنكاره رغم مرور أكثر من قرن وربع القرن على ظهوره، وكثرة المتورطين فيه الذين أصبحوا تراثا، وبالتالي سيبدو إنكار حركات التجديد في حاجة إلى تفسير.
إذا جاهر أحدهم بإنكار الشعر الحر وقصيدة النثر وعدم الاعتراف بهما فما الذي يعنيه؟ إنه لا يعني أن ذلك غير موجود، لأن الحقائق على عكس ذلك، فمراجعة المطبوعات والدوريات والمجلات تؤكد على تراجع الشعر العمودي بصورة ملحوظة وانفساح المجال أمام قصيدة النثر والشعر الحر، بصورة أصبحت تهدد الشعر العمودي، فالإنكار هنا كأنه إنكار للعلل التاريخية التي أفرزت هذا التطور، وبذلك يقيم المنكر حاجزا نفسيا من العداوة بينه وبين الظاهرة، وهذا الحاجز هو الذي يدفعه إلى الرفض والإنكار.

أمام هذا الوضع البائس للشعر العمودي الذي ضحى بعمود الشعر يكون استنكار زملائي لشعر التفعيلة وقصيدة النثر وضعا أكثر بؤسا من المستوى الفني للكتابة الإبداعية والنقدية المتراجعة علميا بصورة بائسة ويائسة

هنا يجب التذكير بسوء الوضع التاريخي للشعر، ففي العالم كله تراجع مستوى الشعر، ومستوى قبوله وعدد قرائه، وتراجعت رغبة دور النشر في طبع الدواوين، ولتعلم أن هذه مشكلة عالمية سأنقل لك ما نشرته مجلة العربي في عدد يوليو 1985 (لاحظ التاريخ جيدا) من مقال بعنوان (هل انتهى زمن الشعر؟) وهو عنوان لافت ودالّ، وتحته يكتب شوقي بغدادي عن غياب جماهير الشعر في أوروبا الشرقية والغربية، ويذكر حديثا دار بينه وبين شاعر فرنسا الشهير في ذاك الوقت جان بريتون انتهى بسؤاله: كم يبلغ عدد النسخ التي تطبع في فرنسا من ديوان شعر؟ وجان بريتون شاعر وناشر وعضو هيئة تحرير – وقتها – في مجلة شعر الفرنسية، أي أن له خبرة في موضوع النشر، فماذا كان رده؟ قال قبل قبول طباعة الديوان لا بد من اجتياز عدة عقبات، أولا، يجب أن يكون هذا الشاعر قد ظهرت له عدة محاولات لتكريس اسمه كشاعر موهوب حقا، وبعدها تأتي عقبة العثور على دار نشر تقبل هذه المغامرة، ذلك لأن دار النشر التي توافق على نشر المجموعات الشعرية باتت قليلة، فإذا اجتاز الشاعر هذه العقبة فلن يُطْبَعَ من مجموعته أكثر من خمسمائة نسخة على الأغلب.
هذا في فرنسا عام 1985، فكيف تتخيل الوضع في مصر والعالم العربي عام 2020؟ وأمام عدم الترحيب بنشر الدواوين الشعرية وانصراف الجمهور عن ندوات الشعر – وأنا شاهد على ذلك - وانعدام جمهور قراءة الشعر، ستبدو هذه "المعركة" حول الشعر العمودي وقصيدة النثر أكثر استفزازا.
تحكي كتب التراث عن أبي عمرو بن العلاء موقفا لطيفا، إذْ أنشده أحدهم شعرا زعم أنه لشاعر جاهلي فأبدى أبو عمرو إعجابه بالشعر واستحسنه وأمر تلاميذه بكتابته، فلما كتبوه واستوثق الشاعر من جودة الشعر واعتراف أبي عمرو بذلك، قال له: إنه لي. فانقلب وجه أبي عمرو وأمر تلاميذه بمحو ما كتبوه لأنه شعر رديء، وقال لغلامه: خرّق، خرّق. لأن أبا عمرو كان لا يؤمن إلا بشاعرية الموتى من الشعراء القدامى الذين يمكن أن تؤخذ لغتهم حجة، أما هؤلاء المحدثون فهم "آفة لغوية" وكلامهم (مثل بعر الكبش) كما ورد عنهم.
ولك أن تتخيل أنْ لو ظهر أبو عمرو بن العلاء والقدامى وسمعوا لغتنا وشعرنا (العمودي) ما الذي يمكن أن يقولوه عن هذا "الهراء" اللغوي الذي وصلت إليه شعرية العرب، فالذي كان لا يعترف بجرير والأخطل والفرزدق وذي الرمة ويعتبرهم (مثل لحم لم يتم نضجه فيؤكل، ولم يترك نيئا فيستفاد به) كيف ينظر إلى شعر البارودي وحافظ والكاشف والعقاد والمازني وشكري والصيرفي والشابي والهمشري، ناهيك عن شعراء الألفية الثالثة، وهل يصدق أن هذا (اللغو) شعر؟
فما الذي تغير في الشعر؟ وما الذي كان في شعر الجاهليين ولم يجده أبو عمرو في شعر الإسلاميين؟ ولم يكن أبو عمرو بن العلاء وحده، بل معظم الأسماء اللامعة في التراث شاطرته الموقف فيما يعرف بخصومة القدامى والمحدثين، وإذا دققت ستجد أن الوزن لم يختف، ولم يتغير ولم تصبه آفة، بل يمكن التأكيد على أن الشعراء المحدثين أكثر تمكنا في الوزن واللغة من الجاهليين، فمئات الإشارات تذكرها كتب التراث عن إصلاح اللغويين أخطاء شعراء الجاهلية في اللغة والوزن والإعراب واستبدال لفظ بلفظ وتدقيق عبارة حتى تستقيم عبارة الشاعر الجاهلي، وهذا أمر تعرّض له أكابر شعراء الجاهلية مثل امرئ القيس والنابغة ، وهذا ما لم يقع فيه الشعراء الإسلاميون.
إذن لم يكن الوزن مدار الخصومة بين القدامى والمحدثين، ولو كان الوزن هو الشعر أو عمود الشعر لدار حوله جدل في كتب القدامى، وارجعْ إلى كتب النقد المعتبرة مثل (العمدة) و(الموازنة) و(الصناعتين) وستجد أن موضوع الوزن لم يكن عصب الدراسات النقدية. بل إن المحتوى الجاهلي والروح الجاهلية والوعي الجاهلي ورؤية العالم من منظور عقلية رجل جاهلي ضيق الأفق محدود الوعي لا يتمتع بمجال إدراك عقلي أو فلسفي، كان كل ذلك هو ما حرص أنصار القديم على نقائه لأنهم اعتبروه أصلا في الشعر إذا غاب تزعزعت أركان المملكة الشعرية، ولذلك عابوا كل من لم يحرص على هذه الروح الجاهلية، واعتبروه محدثا، ولك أن تراجع الطعون التي يوجهها أنصار القديم إلى أبي تمام في الكتاب المعروف (الموازنة بين الطائيين) وتقابلها بالمزايا التي يخلعونها على غريمه البحتري لتدرك أن آفة أبي تمام هي تمرده على العقلية الجاهلية وميزة البحتري هي مقدرته على محاكاة هذه العقلية.

إن مراجعة القضايا المثارة حول (القدامى والمحدثين) تجعل الحديث عن الوزن في الشعر محل شك، خصوصا إذا تحدث أنصار (الشعر العمودي) عن الأوزان، وتناسوا محتوى الشعر العمودي ولغته وقضاياه ورؤية العالم التي يقدمها هذا الشعر، ومدى ارتباطها بالشعر القديم، وهنا سيبدو الأمر مربكا، فمن المؤكد أن أي قراءة لعيون الشعر العربي القديم مقارنةً بالشعر العمودي المنتج حاليا لا تثبت أي وجه شبه بينهما باستثناء الوزن، فإذا ضحّى الشعرُ العمودي بكل شيء، فلماذا لا يُسألٌ عن هذا؟ ولماذا يتم تجاهل كل هذا وحصر الشعرية القديمة في الوزن؟
أشير هنا إلى أن مصطلح (الشعر العمودي) مريب وغير دقيق، ولكنه شائع، فهو اختزال للطرح النظري الذي قدمه الآمدي، أول من تحدث عن (عمود الشعر)، في شرحه ديوان الحماسة، ولتلاحظْ هذا التحول المدهش من (عمود الشعر) إلى (الشعر العمودي) وهو تحوّلٌ يختزل القضية كلها في (العمود) الذي تم فهمه – فيما يبدو - فهما لغويا، فالعمود كما قال ابن منظور هو الذي تَحَامَلَ الثّقْلُ عليه من فوق كالسقف، وهو الخشبة التي يقوم عليها البيت.
وأنا احيلك إلى واضع (العمود) في التراث النقدي وهو الآمدي لتفهم مراده الذي جعل عمود الشعر في "شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ...، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما – فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر".
هذه هي مفردات عمود الشعر السبعة وستجد ان الوزن مقحم في الشرط الخامس، وكأنه تذييل، وكذلك القافية في الشرط السابع. والآن اقرأ (الشعر العمودي) وفتّش عن (عمود الشعر) فيه، ستجد أن (الشعر العمودي) ضحى بالعناصر السبعة، ولم تعد مما يشغل الشعراءَ والقرّاءَ، ولم يتمسك إلا بالجملتين الاعتراضيتين في الشرط الخامس (على تخيّر من لذيذ الوزن) والشرط السابع (شدّة اقتضائهما للقافية)، وتم اختزال هذا الاحتراز بصورة مخلة، فبإمكانك أن تجد في شعر اليوم آلاف القوافي أتى بها الشعراء اضطرارا وهي نابية عن موضعها، وأؤكد على أن عبارة (لذيذ الوزن) هذه مما يصعب الحديث عنها، لأنها من باب النقد الانطباعي، فالوزن لا ينفصل عن الدلالة الشعرية.
إذا أعدتُ طرح السؤال: لماذا يكره أصدقائي قصيدة النثر، ستجد أن أي كلام عن (الخروج) على تقاليد (الشعر العمودي) سيبدو مغالطة وإنكارا للواقع والتاريخ النقدي والثقافي الذي يوهمنا هؤلاء بالاعتماد عليه، فكل ما يكتب اليوم تحت اسم (الشعر العمودي) يضحي بعمود الشعر تضحية سخيفة، بالعناصر السبعة، ولم يبق من (عمود الشعر) إلا الوزن والقافية، وفي معظم هذا الشعر نجد (النظم) غالبا على (الشعر).
ولا أجد خيرا من كلام العقاد لوصف مثل هذا الشعر في زمنه والدوافع إلى كتابته، فالغالب على شعراء زمننا أنهم تخرجوا في أقسام اللغة العربية، وتعلموا العروض ولديهم قدر من المعرفة اللغوية وظفوها في كتابة ما أسماه العقاد "شعر العروضيين"، وهي قوالب وزنية يتم شغلها بألفاظ على غرار نصوص قديمة أو حديثة، والدافع إلى ذلك دافع ديني – في الغالب - ويؤكد العقاد على ذلك بقوله: "وقد استفاد من هذا الطريق أناس لم يستفيدوا من الذوق الأدبي والملكة الفنية الخالصة، إذ ليس للأذواق الأدبية والملكات الفنية من الشيوع والنفاذ ما للعقيدة الدينية بين الخاصة والعامة والقارئين وغير القارئين" ومن المؤكد ان هذا "الشعور الديني" تنميه دراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية، فتكون كتابة الشعر أحد مظاهر الشعور الديني، ولذلك ينطبق على نصوص هذه الفئة – وهي غالبة - كلام العقاد عن حفني ناصف وإنك إذا رجعت إلى قصائدهم "لم نجد بينها بيتا واحدا يدل على سليقة مفطورة على استيعاب المحسوسات، أو نكتة تخرج على مفارقات الألفاظ واللعب بالأوضاع والأشكال".
من المؤكد أن الكلام على عموم الكتابة الشعرية يستثني قلة من الشعراء – وهم معدودون في كل العصور - فمن بين الآلاف الذين يظهرون في كل زمن لا يذكر التاريخ منهم إلا بضعة شعراء، هذه القلة يمكن أن تكون "إضافة" إلى تاريخ الشعرية العربية.
وأمام هذا الوضع البائس للشعر العمودي الذي ضحى بعمود الشعر يكون استنكار زملائي لشعر التفعيلة وقصيدة النثر وضعا أكثر بؤسا من المستوى الفني للكتابة الإبداعية والنقدية المتراجعة علميا بصورة بائسة ويائسة.