لوحة معالي الوزير

أنا في سبيلي الآن لإنهاء بورتريه معالي الوزير بملابسه الصيفية التي تتألف من قميص أزرق داكن ذي زراير بيضاء، وبنطلون أبيض.


يحمل لي فصل الصيف في الإسكندرية الكثير من المتاعب والأرق والمفاجآت غير السارة في أغلبها، والتي لا أستطيع التغلب عليها إلا بالهروب إلى شواطئ أخرى، إما إلى مرسى مطروح، أو شواطئ أوروبا، ليس بسبب الجو الحار نسبيا أو المشبع بالرطوبة في الإسكندرية، ولكن بسبب الازدحام ووجود الوزراء والباشوات والبكوات وعائلاتهم في الإسكندرية، بعضهم يتصل بي لأرسمه - أو أرسم أحد أفراد أسرته - في حديقة منزله أو على الشاطيء أو لألتقيه في إحدى الحفلات والسهرات.
وأنا بطبيعتي لا أحب هذه الحفلات ولا السهرات، وفي الوقت نفسه لا أستطيع الاعتذار المستمر، لذا أجد السفر بعيدا عن الإسكندرية – رغم أن الجميع يفدون إليها – هو الحل المثالي دائما.
وعلى الرغم من ذلك فقد استجبت لاتصال أحد الوزراء من أصدقاء والدي الأوفياء، كان كابينه المتسع يقع في بلاج سيدي بشر، واتضح لي أن هذه الكابينات (أو الكبائن) المخصصة للسادة الوزراء تمتاز فضلا عن كبرها وكبر مقام أصحابها بأنها ذات لون برتقالي ظريف، يتخلله اللون الأخضر الجميل، وقد شيد إلى جانب كل منها حمام صغير. ومن مميزاتها أيضا أنها تُضاء بالكهرباء، وأن في ركن كل منها آلة تليفون صيفية.
ذكر لي هذا الوزير الوفي أن كابين رفعة النحاس باشا، وكابين معالي مكرم عبيد باشا يقعان على ناصيتي البلاجين رقم 1 ورقم 2 في سيدي بشر، أما كابينات بقية الوزراء فتقع بين الكابينات المرصوصة على هذين البلاجين العامرين بكبار رجال الدولة وفي مقدمتهم عزيز عزت باشا وشريف صبري باشا وعلى ماهر باشا وحامد باشا الشواربي وأمين باشا عثمان.
سألته – قبل رسمه بملابسه الصيفية - هل هذه الكابينات توهب بالمجان للباشوات، فأخبرني أنها بالإيجار الرمزي الذي لا يزيد على 24 جنيها في العام، ولكنها معفاة من رسوم عوائد الشمسية التي تحصلها البلدية من الكابينات الأخرى.
وهل الكابينات الأخرى ملك لطوائف أخرى من الشعب الذي من حقه أن يستمتع أيضا بالبحر في سيدي بشر؟ 
قال: لقد فرضت البلدية في عهد صادق يونس باشا رسم دخول إلى البلاجين المذكورين قدره 30 مليما لتكفل بذلك "نقاوة" الوسط الذي يقيم بينه الوزراء والكبراء.
وأضاف أن البلدية تعطي لكل صاحب كابين دفترا به 100 تذكرة دخول مجانية ليدخل بها من يشاء من الأقارب والأصدقاء.
قلت له: أنت تعرف أننا لا نملك كابينا ولا نستأجره، فنحن في الإسكندرية لا نحتاج غالبا إلى الكابين، إلا من باب الوجاهة الاجتماعية، وأنا حقيقة لا أعرف هل الوالد له كابين مثلكم أم لا.
وأنا أضع الخطوط الأولى لرسم بورتريه معالي الوزير، قال: الذين ليس لهم كابينات في الإسكندرية من الوزراء والباشوات والباكوات، لهم شقق ومنازل مستأجرة، مثل خليل الجزار بك الذي يستأجر منزلا من أفخم منازل الرمل، وهو يطل على شارع الكورنيش تجاه بلاج استانلي باي، وهو لا يبعد كثيرا عن فيلتكم في جناكليس، وقد شيد على الطريقة الإنجليزية الحديثة وزود بأفخر الأثاث والرياش، وكنت في زيارته مساء أمس.
ذكرت له – بعد أن خططت حاجبي عينيه السوداوين - إنني أعرف أن محمود غالب باشا وزير الحقانية يستأجر منزلا بديعا في حي رشدي باشا، وأن هناك مجموعة من الوزراء والباشوات على رأسهم علي ماهر باشا يستأجرون منازل واقعة فوق ربوة عالية عن شاطئ البحر، ولكنها لا تطل عليه مباشرة. وقد استدعاني صاحب الدولة على ماهر باشا لأرسمه في منزله وهو من أفخم المنازل التي رأيتها هنا، فهو يمتاز باتساع الحديقة الغناء التي تحيط به، وبوجود ملعب للتنس في هذه الحديقة، فضلا عن فخامة مبانيه وأثاثه.
-    هل تعلم كم دفع في إيجار هذه المنزل الفخم؟
-    لا أعلم!
-    لقد استأجره دولته في الأشهر الثلاثة التي سيقضيها مصطافا في الإسكندرية بمبلغ 400 جنيه.
وأنا ألوِّن الشفتين قلت: مبلغ معقول بالنسبة لفخامة المنزل.
أكمل حديثه معي قائلا: أما حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة أم المصريين فقد استأجرت منزلا فسيحا ملاصقا لمنزل شقيقتها حرم المرحوم سرهنك باشا على قيد خطوات من كازينو سان استفانو. ولا يقيم مع عصمتها بهذا المنزل على اتساعه سوى وصيفتها الألمانية الآنسة فريداـ غير أن أسرتي شقيقتيها حرم المرحوم سرهنك باشا والمرحوم محمد صدقي باشا تكثران من التردد على عصمتها خلال النهار.
قلت: من خلال علاقتي البسيطة مع عصمتها أعرف أنها لم تترد علي أي بلاج من بلاجات الإسكندرية، إذ هي تكتفي بركوب سيارتها بعد ظهر كل يوم مخترقة بها شارع الكورنيش.
أنا في سبيلي الآن لإنهاء بورتريه معالي الوزير بملابسه الصيفية التي تتألف من قميص أزرق داكن ذي زراير بيضاء، وبنطلون أبيض، وساعة معصمه بنية اللون ذات ماركة عالمية، ولاحظت أن ساعديه غزيرا الشعر، ما يعني أنني سأكثف اللون الأسود على الساعدين، وهو ما يكسب اللوحة مزيجا من الأبيض والأسود وحوارا مع الأزرق، واقترحت عليه أن تكون الخلفية للبحر في تموجاته وتدرجات ألوانه،  فوافق على الفور.
بعد أن انتهيت ورأى اللوحة أعجب بها، ثم دعا أحد خدمه الواقفين خارج الكابين لأخذها بعد أن تجف، إلى محل براويز لوضعها داخل إطار خشبي مذهَّب يغطيها الزجاج، ودعاني للعشاء في منزله المستأجر بكورنيش سيدي بشر.
قبل أن أغادر سألني سؤالا مباغتا: هل تعلم متى افتتحت قناة السويس يا محمود؟
-    نعم أعرف بالطبع .. 16 نوفمبر 1869.
-    ومن ساعتها لم يفكر أي فنان في منزلتك في رسم القناة، ولا تخليد حفل افتتاحها الذي دعا فيه الخديوي إسماعيل الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا، وإمبراطور النمسا والمجر، وولي عهد بروسيا وولي عهد هولندا، وشخصيات أخرى غيرهم.
-    فعلا أنا لم أفكر في هذا الأمر، لأنني معنيٌّ برسم البورتريهات وبنات البلد والحياة العامة في مصر مثل حياة الصيادين والفلاحين والناس البسطاء الذين أحبهم، فضلا عن أصدقائي وأصدقاء والدي وأفراد العائلة.
-    ولماذا لا تفكر في رسم حدث خالد مثل هذا لم يرسمه فنان مصري قبلك؟
-    لأنني لم أعاصر الحدث ولم أشاهده.
-    تخيل الحدث، فإنت فنان وملكة التخيل عندك واسعة، وصور الشخصيات موجودة في الجرائد التي واكبت الحدث.
-    معالي الوزير أنا أرسم معظم لوحاتي على مقاس صغير، وهذا الحدث يحتاج إلى لوحة ضخمة كبيرة لا تقل عن ثلاثة أمتار في مترين، وأنا لا أجيد الرسم على هذه المساحة الشاسعة.
-    وإذا أخبرتك أن هذه رغبة ولي النعم الملك فاروق. هو يريد أن يحتفل بذكرى افتتاح قناة السويس في نوفمبر القادم وتدشين تلك اللوحة الكبيرة.
-    قد لا أتمكن فلوحة مثل هذه تحتاج إلى وقت لإنجازها.
-    أنت يا محمود مثل ابني تماما، وتعلم كم نحبك أنت ودولة الباشا والدك، وهذه اللوحة ستفتح عليك رزقا وخيرا وفيرا من ولي النعم. وأنا لم أحدث فنانا آخر من زملائك في هذا الأمر.
-    والله معالي الوزير .. يكفيني أن تقدروا فني ولوحاتي .. فلا أطلب أكثر من ذلك.
-    عموما حاول يا محمود .. إن لم يكن هذا العام، فليكن العام القادم. ولتتأمل مقولة إمبراطور النمسا والمجر فرانسوا جوزيف عندما حضر حفل افتتاح القناة: "لو أن مصر كانت في حيازتي لوضعتها بين جفني عيني وأحكمت إغلاقهما عليها حتى لا يراها أحد".
-    سأحاول معاليك .. 
شددت على يديه ومشيت على كورنيش سيدي بشر وأنا مضطرب الفكر، متغير الوجدان، بعد أن كنت سعيدا بإنجاز بورتريه الوزير على النحو الذي أرضاه، وعلى الرغم من أننا في الصيف الآن، إلا أنني شاهدت في سماء الإسكندرية سحبا داكنة وخيولا تصهل ودماءً تنزف، فأوقفت سيارة  أجرة، وأسرعت إلى واحة الفن والأمان في شارع سعد زغلول.