"ليالي الهدنة" مثاقفات السرد وجمالياته

رواية "ليالي الهدنة" للكاتبة منى العساسي تبدو أشبه بتراجيديا إنسانية، تحاول من خلالها تجسيد حالة البطلة/ الساردة التي لم تظهر اسمها.
مروج الذاكرة ممتلئة بكل أنواع الحكايات المصبوغة بالشجن والمرار
صراع الذات مع الواقع، وتشابكات لحلم لم يكتمل، وذكريات مؤجلة

تبدو رواية "ليالي الهدنة" للكاتبة منى العساسي أشبه بتراجيديا إنسانية، تحاول من خلالها تجسيد حالة البطلة/ الساردة التي لم تظهر اسمها، واكتفت بالضمير للراوي، وهي رواية تستخدم فيها الكاتبة الضمائر التي تتحرك من خلال الرواية لتضيف لها بعدًا انسانيًا، لمحبوب حاضر/ غائب، عبر مروج الذاكرة الممتلئة بكل أنواع الحكايات المصبوغة بالشجن والمرار، وهي في ليالى الهدنة، تحاول – البطلة - الإسترواح للقفز فوق سلالم الوجع، والتشبث بقوة وإرادة فولاذية بعد رحلة الفقد والوهن، بل والعجز والإنكسار، فتجربة الحب لذلك العجوز – في الحلم – وربما في الواقع قد جعلتها تهيم في دوائر الحيرة والخوف والقلق من حاضر محزن أليم، ومستقبل مجهول لا ييبن، فنراها كساردة عبر الراوي العليم، تتأرجح على عربة الحزن، وتحاول الإستفاقة قبل أن يلحقها قطار الحياة الوحشي المخيف، تتذكر/ تعترف / تكتب لتتطهر من وجع مقيم، وتحاول الفرار إلى مستقبل مجهول، فتقع في دوار الهروب، وتصاب بدوار الفكر، لكنها تتشبث بقوة، وبإرادة حديدية لتستعيد التوازن، وتُحدث المعادلة الجديدة، فقد اعتبرت البطلة ما كان بها مصيبة كبرى، أيامًا سوداء، وعليها أن تأخذ قسطًا من الهدنة، لتفكر، وتستعيد سيروة وجودها، وصيرورة أيامها الخوالي التليدة.
إنه صراع الذات مع الواقع، وتشابكات لحلم لم يكتمل، وذكريات مؤجلة، أجلتها الساردة لتعطي نفسها مهلة/ هدنة جميلة/ اختبار للذات لتقبل الوجع الزاعق بروحها الآسنة عبر أيام مضت ولم يتبق لها من رنين الهاتف سوى ذكرى كلمات، ومن استرجاع المخيال سوى العروج إلى أمكنة غير مستقرة عبر قطارات ومقاه، وسجائر تنفث من خلالها رهقها، وحزن أيامها البائدة.

ما أروع السرد هنا، عبر البهاء الكوني، واستدعاءات المثاقفة، والتقارنية التي  تحدثت عنها من قبل سوزان سونتاج والتي جعلتنا نرى رواية الكاتبة منى العساسي كتابة خاصة

إنها رواية الظلم الإنساني لبطلة تحاول التجديف عبر سفينة الحب، "أوجاع حياة قاسية"، ومجهول ينتظرها لمستقبل غامض، مقابل أوجاع وانكسارات لقلب محب عاشق، لعجوز خمسيني بهرها ورأته في الحلم لتعقد لنا بجدارة رواية "الذاكرة"، أو الروايات التي تشبهه روايات محمد عبدالحليم عبدالله في: "الندّاهة"، مع اختلاف الموضوع، عبر تأرجح ذات مجروحة قلقة.
ويبدو الحزن سمة تغلف الرواية منذ البداية، تقول: "فِي جَوْفِي طَائِرٌ مُحَلِّقٌ، يَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهِ.. يَبْتَغِي الْحُرِّيَّةَ، يَرْجُو الْخَلَاصَ."
فهنا الطائر مخنوق، مسجون يرجو الخلاص ليتحرر عبر ذاتها المحبة، القلقة، الحزينة، والمقهورة كذلك. إنها تستعرض الماضي، تعترف وتحزن، ولا تقلق من البوح، تقول في "الليلة الثامنة بعد الهدنة": "الطرقات المزدحمة بمدينتك الصاخبة لا تشبه أبدًا الطرقات الخالية بهذه البلدة الصغيرة التي لا تمنحني الكثير لأنشغل به، لا شيء يستدرج أفكاري المعتلة بك بعيدًا، لا شيء هنا يفصلني عنك، لا نقيق الضفادع، ولا نباح الكلاب، ولا ثرثرات المارة القلائل، ولا لسعة أول الليل، هذا الذي أتى على غير أوانه مداعبًا رئتي ليوقعني ضحية للسعال. رجفات أوراق الشجر ورائحتها القوية على جانبي الطريق تمارس غوايتها، كأنها تتحرش بذاكرتي، ترسل تنهُّداتي في مفترق الطرق تستغيث، وما من طريق يأتي بك، ألملم منك قلبي؛ كي أبعثره فيك مع كل نبضة من جديد، أهترئ وأمتزج في خلاياك حتى أضمن لروحي أبدية الوجود معك، أبدية البقاء فيك، فأغفو بالمساء، وخاتمتي أنت، وأغسل وجه النعاس في الصباح بعينيك، فتكون بدايتي أنت. بينما هي على هذه الحال تتجوَّل في نفسها، أخذتها خطوتها المثقلة بمخيلتها الصغيرة إليه، وجدته جالسًا على أريكة قبالها هناك في منزله، نظرت في ملامحه الحائرة، وتبسمت، هامسة: "أعلم أني أسرف في تعاطيك هذه الأيام".
ولعلنا نلمح جماليات الوصف الجميل، عبر لغتها المنسابة من قلب ممزق، وعين تذرف البوح، لا الدموع، فهي كبطلة قوية؛ تسرد واقعها دون أن تخفى أي شيء؛ فقد رحل الحبيب وأصبح الحاضر ماضيًا، والعاشق عدوًا، فكيف وهي المصدومة في الحب من ذلك الرجل العجوز أن تتجرد من مشاعرها، بل رأيناها تسكب روحها وقلبها وتبوح بشجن مرير، وبصدق فني، وفطرة قلب حزين، جميل مفعم بالحب كذلك.
لقد استطاعت – بضمير الساردة – أن تجعلنا كقراء نتشارك ونتقاسم معها الحزن الوجودي، والقلق، والخوف من مصير  ضبابي، لكنها مع كل هذا السخط عليه إلا أنها لا تزال تخبأه بقلبها، وكأنها تستبقيه رغم رحيله، وتضمه إلى الأبد، فمن عشقت لا تكره، ولا تنسى المعشوق أبدًا، تقول: "ها أنذا أنتظرك بكل ما أوتيت من حب، من ضعف وحاجة، أقف هنا وحيدة منتصبة كشجرة صنوبر في خريف العمر، آثرتْ أن تقف في وجه عواصفك التي تهز ركود أعماقها، لتعتصرها بكل ما أوتيت من ارتباك وتردد. آثرتْ أن تقف حائرة بين ما تريده وما تخافه، مؤثرة أن ترحل محملة بك، تقتلها الحسرة؛ لأنها أتتك متأخرة.... ها أنذا أقف في المنتصف تفصلني عنك مسافة تعب ممتدة لعشرين عامًا كاملة، فلا شوارع تتقاطع معها خطانا، ولا طرقات أزرع على جزرها أحلامي، علَّها تجد مَنْ يرويها، فتنمو مع أشجار الطريق...ها أنذا أقف بذاكرة مثقلة بك في كل لحظة ترقص في رأسي كصوفي منتشٍ، لا يكف عن رقصة عشقه حتى تسقطه تعبًا."
لقد واربت بطلة الرواية الحزن بقلبها، وفتحت شُرَّاعَةً على شوارع الحياة لتدلف منها إلى النور/ الحرية، لكنها موجوعة تتذكر، تحِنُّ، تهرب، وتفر إلى مجهول غير واضح المعالم لحياة جديدة تستلبها وتعبرها لتقف كالملتاثة الموجوعة على عتبات الحياة والكون تستطلع العالم كغريبة، بعد أن كانت نبتة نضرة في حديقة الحب، أصبحت كورقة خريف تساقطت بفعل الرياح والعواصف، ومجريات ما حدث لها، فهي رواية استبطانية/ ذاتية / نفسية/ سيسولوجية تربط فيها الواقع بالحلم، والماضي بالحاضر، وتخاف أن يدهمها المستقبل المجهول.

novel
هل قلت هذا حقًّا؟!

ولعلنا نلمح متتالية الحزن الممتدة عبر الليالي / ليالي الحزن الطويلة / ليالي الهدنة التي تتطهر من خلالها عبر استرجاع الماضي - لغة السينما - لتحكي لنا واقعًا جميلاً، وحياة لعاشقة ذاقت الحب والعشق وثملت، ثم وجدت نفسها وحيدة في مهب الرياح والأعاصير، فلا دفء هنا، ولا حضن يعيد لها الأمان بعد الخوف، والحب بعد الفراق الممتد!! 
لقد تزوجت العجوز – كنوع من التعويض – فيما أحسب، لفقد الأب، فوجدت فيه الحنان والدفء، رغم فارق السن الكبير، ولأنها تواقة للسكنى والحب ارتضته رمزاً وقائداً لقيادة سفينتها التي أجهدتها الأيام، لكنه كان خبيثًا، غير أمين على قلبها الذي وهبته إياه، مع جسدها الغض، فتركها إلى لا عودة لتظل مهددة في حياة غامضة، وليل  للغربة، والإغتراب النفسي الممتد، فهنا "رواية البوح والشجن"، "رواية الحب والخديعة"، "رواية الحق والباطل"، و"رواية النور والعتمة".
ولعلنا لن نستطيع أن نغلق الحديث عن الرواية لنرى "مثاقفة السرد الرائع" عبر مزجها لحوارية "السيد هاروكى" مستعيرة "كافكا على الشاطىء" لتصنع مفارقة السرد واحالاته الرامزة، وهي تستحضر العجوز لدى كافكا، والعجوز والبحر – الذي أحالتنا عبر التماهي كذلك لأرنست هيمنجواي، لنستدعى الجمال في الروايتين، عبر المشار إليه في الروايتين: العجوز، لتحدث مقارنة لطيفة بين عجوزها/ الحبيب، وأبطال الروايتين المتخالفتين، تقول: "مكالمة هاتفية لعدة دقائق كانت كافية جدًّا لتعدل عن كل القرارات، لتخرجها من هذيان العقاقير والكحول وهلاوس الغيرة التي جعلت من رأسها في الأيام الماضية بيئة مناسبة لتبني فيها الهلوسة مستعمرتها بقوة، ناسجة خيوطها بدقة متناهية كبيت عنكبوت، وتعود مجددًا لإدمانه. 
بزاوية غرفتها جلست تدخن سيجارة، وتقرأء "كافكا على الشاطئ"، شردت لبرهة، لمعت في ذهنها جملة كانت قد قالتها له في لقائهما الأول: "إذا أردت الاحتفاظ بي عليك أن تطعمني نفسك بحذر، عليك أن تقطرها فتسقيني إياك قطرة قطرة، فلا أعطش ولا أرتوي، لا تندفع تجاهي هكذا كقطار سريع". تبسَّمت لنفسها بتثاقل، وهمست مندهشة: هل قلت هذا حقًّا؟!
هل أخبرته منذ اللحظة الأولى كيف يجعلني أدمن عليه؟!
عضت على طرف شفتها السفلى في عصبية مباغتة، وتمتمت ساخرة: يا لي من حمقاء!
بأي فكرة غبية كنت أهذي عندما قدمت له نفسي هكذا طعامًا لينًا!
شهقت عائدة إلى كاتبها مغمغمة:
كافكا.. كافكا.. كافكا، وصمتت متسائلة: يا ترى، أي روح  سكنتني يا سيد هاروكي، ومن أي زمن أتت! ثم عادت لصفحات كتابها الإلكترونية، وانغمست فيها متقمصة ناكاتا العجوز".
إنها الرواية الشاعرة فلغة السرد تميل إلى شاعرية عميقة عبر سرد تلون بصور دافقة، ممتدة، تراكمية، ودالة إلى منمنمات ومتوالية سردية للجمال الممتد، عبر فيوضات السرد الإحالي لبطلة تجدف عبر سفينة الحياة لتستنطق الوجع والظلم، والخديعة لذلك الرمز الذي خدعت فيه، عبر بطلة تسرد النور بمغزل المحبة وفيوضاتها الساحرة.
وفي النهاية نقول: ما أروع السرد هنا، عبر البهاء الكوني، واستدعاءات المثاقفة، والتقارنية التي  تحدثت عنها من قبل سوزان سونتاج والتي جعلتنا نرى رواية الكاتبة منى العساسي كتابة خاصة، تستخدم تقنيات السرد بضمير المتكلم والمخاطب، والراوى العليم لتصنع ذاتها/ ذاتنا كقراء تشاركيين؛ وتعيدنا إلى أفق الحكاية الجميلة الحزينة، والمتماهية مع الجمال الكوني؛ عبر العالم الممتد الأثير.