ليس هناك ما يُقلق أو كل شيء يُقلق

هزمت الأنظمة في الحفاظ على سلطتها وفشلت الشعوب في الاهتداء إلى وسيلة تعينها على القبض على مفاتيح السلطة.

كان من المنطقي أن يشكل احتلال العراق عام 2003 جرس إنذار في المنطقة. الحدث كان مروعا ومخيفا ومأساويا ويمكن اعتباره مقدمة لكارثة عظمى وإن كان في حد ذاته واحدة من أعظم الكوارث التي مرت بالمنطقة.

لا أحد في إمكانه اليوم أن يقدم تحليلا حقيقيا لطريقة تعامل العرب مع ذلك الحدث الجلل وكيفية النظر إليه من قبل دوائرهم السياسية.

هناك مَن نظر إليه باعتباره نتيجة ليس إلا. نظرة تبسيطية حاول الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي أن يفندها حين أكد أمام الملوك والرؤساء العرب ذات مرة أن ما وقع لصدام حسين يمكن أن يقع لأي واحد منهم.

قالها القذافي كمَن يعتذر لا كمَن يعتبر.

بعد ذلك بسنوات وقع ما هو أسوأ للقذافي نفسه. لقد التحق بصدام حسين الذي كان ينظر إليه في حياته باعتباره خصما وندا.

كان من الممكن أن يكون احتلال العراق فرصة يراجع النظام السياسي العربي من خلالها مسيرته بكل ما تخللها من أخطاء وسلبيات وبالأخص على مستوى العلاقة بالشعب من جهة كون تلك العلاقة هي الميزان الذي يتعرف من خلاله على ثقله الحقيقي في الحياة العامة.

فمَن أجل أن يكون المرء مطمئنا إلى ما يعمله ينبغي أن يرى أثر أفعاله في عيون الآخرين لا في مرآته. غير أن الحكم الشمولي المطلق بكل ما يحيط به من تهليل وتبجيل ودعاية مضللة لن يكون قادرا على اجتياز المسافة التي تفصل بينه وبين الشعب الذي يقيم وراء حُجب سوداء.

لذلك فوجئ حسني مبارك وعلي عبدالله صالح ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي وبشار الأسد بما حدث من حولهم.

لم يكن أمامهم من تفسير سوى الاستعانة بنظرية المؤامرة.

وإذا ما قبلنا بذلك التفسير جدلا يمكننا القول إن المؤامرات المعلنة لم تسقط زعماء شموليين آخرين في العالم وفي مقدمتهم الكوبي فيديل كاسترو.

ما هو أقرب إلى المنطق أن نقول إن النظام السياسي العربي كان يحمل أسباب موته ذاتيا والتي يمكن أن توقظها صرخة تأتي من مكان غير متوقع. كان الفيروس القاتل جاهزا في انتظار من يبث فيه الحياة.    

ليس عجز الشعوب العربية التي سقطت أنظمتها السياسية عن إقامة نظام سياسي بديل مسوغا لكي يتم الترحم على تلك الأنظمة. العكس هو الصحيح. ذلك العجز هو جزء من إرث الماضي. لم تكن هناك حياة سياسية سوية في كل البلدان التي غادرت أنظمتها بدءا بالعراق وانتهاء بسوريا مرورا باليمن وليبيا وتونس.

نظرت تلك الأنظمة باستخفاف إلى الحياة السياسية التي احتكرت شؤونها لنفسها وهي نظرة تنطوي على الكثير من الازدراء، الذي لم يكن موجها للشعب بعامته بل لنخبه المثقفة ولكفاءاته ولقادة الفكر فيه. كان أصغر مرتزق وصولي ومتزلف من أفراد الطبقة الحاكمة أعلى صوتا من جمع من المثقفين والعلماء والمعلمين الذين لا يملكون سوى النزاهة سلاحا.

لقد انتهى ذلك الصراع الخاوي إلى الفشل.

هزمت الأنظمة في الحفاظ على سلطتها وفشلت الشعوب في الاهتداء إلى وسيلة تعينها على القبض على مفاتيح السلطة.

اليوم يدور صراع عبثي بين جماعات، كل واحدة منها تعتبر نفسها الجماعة المبشرة بالسلطة. وهي فكرة مستلهمة من تراث تميز بدمويته.

ما من شيء في العالم العربي ينتمي إلى العصر الحديث.

غير أن ما هو مؤكد أن العرب لم يتعلموا شيئا من الدرس، حين رفضوا الوصول إلى خلاصات للتجارب الكارثية التي كانوا فئرانها.

سقط العراق عام 2003 ولم يسقط نظام الرئيس صدام حسين وحده.

وهو ما يعني أن اللعب بالجغرافيا أكثر خطرا من السياسة. بسقوط العراق فقد العرب جزءا ضروريا، كانوا من خلاله يستندون على جدار يحميهم من الشر الإيراني.

وإذا ما كان البعض ينظر إلى مسألة الأمن القومي باعتبارها واحدة من اختراعات الفكر القومي فإن ما يجري اليوم في العالم العربي يؤكد أن اجتثاث الشجرة كلها هو الهدف الذي انطوى عليه اسقاط الثمار واحدة تلو الأخرى.

"ليس هناك ما يقلق" كان هذا شعار الأنظمة السياسية التي ضللت نفسها بدعايتها التي لم تتخط عتبة الدار. وهو شعار ينبغي استبداله اليوم بـ "كل شيء يقلق. حتى بكاء الأطفال الرضع في العالم العربي فيه شيء يقلق".