لينا ديب: يتضح الطريق أمامي من أول لون أخطه

الفنانة السورية لا تأخذ العنصر من التاريخ كما هو وإنما تبدأ بمحاورته ليصبح لينا مطواعا في يدها فتقدمه كروح أكثر ما هو شكل.
ديب تعمل بطريقة المونوتيب، وهو المزج بين التصوير والحفر
الموهبة الفطرية ضرورية ولكن الدراسة الأكاديمية طريق سريع لبلورة موهبة الفنان وصقله
الموسيقى والرسم يكملان بعضهما بعضا

منال حسن غانم

بعشق للتراث والمعاصرة تحاور الفنانة التشكيلية لينا ديب لوحتها السورية المشغولة بحرفية عالية، فريشتها المترجمة لأحاسيسها والتي تنقلها من مكان لمكان بحرية وبدون قيود، حمّلتها العديد من القضايا التي ترغب بطرحها وبطريقتها الخاصة وبتقنيات مختلفة تدفع المتلقي للبحث والمتابعة.
ولتحدثنا عن بدايات رحلتها الفنية وأعمالها ورسالتها، كان لنا هذا الحوار الشيّق مع الفنانة التشكيلية لينا ديب، التي قالت: «الفن التشكيلي يعني لي الكثير فمن خلاله أعبر عن معاناتي وهواجسي وأحلامي، ومن خلاله أتنفس وأنبهر وأندهش وأتفاعل مع الحياة، لأترجم أحاسيسي بالخطوط والألوان، فأسجل بريشتي ذلك السحر الذي أستلهمه من جماليات ماضينا ومن إرثنا الحضاري المخزون في ذاتنا. 
في بداياتي أوليت اهتماماً للموسيقى والعزف بتشجيع من والدي المحامي حبيب ديب المتذوق لها، وبرزت موهبة الرسم بالمرتبة الثانية، ولم يكن آنذاك في سوريا معهد عال للموسيقى وشجعني والداي لدراسة الفن التشكيلي، فالموسيقى والرسم يكملان بعضهما بعضا، وأذكر أنني رسمت لوحة زيتية ووضع أستاذي الفنان دراق السباعي اللمسات الأخيرة عليها، وفوجئ أهلي بمستواي. رغبت أن أختص بالديكور فتدربت على يد الفنان أحمد دراق السباعي قبل دخولي كلية الفنون الجميلة التي صقلت موهبتي، فالموهبة الفطرية ضرورية ولكن الدراسة الأكاديمية طريق سريع لبلورة موهبة الفنان وصقله، فمن الضروري أن يكون مطلعاً على المدراس الفنية العالمية وتجاربهم، وعلى تاريخ الفن، لمعرفة أسرار العمل الفني».

لينا ديب تسير بخطى حالمة واثقة لا تتوقف عن العمل على تطوير عملها حتى أصبحت اسما مهما في تاريخ التشكيل السوري، وهي تشبه لوحتها إلى حد بعيد

وعن حوارها مع السطح الأبيض قالت: أقف أمام اللوحة، وأبدأ بحركة الفرشاة دون أن أحدد ما أريد أن أرسمه، وبعدها يتضح الطريق أمامي من أول لون أخطه، وتبدأ ملامح اللوحة بالظهور تدريجياً إلى أن أصل إلى نهايتها، ولا أحدد غالباً رؤى محددة بل أعطي للمشاهد حرية التعبير عما يفهمه أو يشاهده أمامه، وبالتالي يكون المشهد حصيلة خبرتي الفنية المعجونة بمشاهداتي اليومية وما تخزنه ذاكرتي من ثقافة وإرث حضاري وبيئي وتربوي.
وعن مفردات عملها الفني أضافت: الفنان ابن بيئته ومحيطه الاجتماعي والاقتصادي، وحصيلته الفكرية والثقافية هي نتاج بيئته، ومن هنا كان تأثري بحضارة (أوغاريت) التي نعتز بها، وعبرت عنها في الكثير من أعمالي، كما تناولت البيوت القديمة التي تتشابك بها الزخارف العربية مع المشربيات الحجرية فتؤلف تناغماً ملهماً للفنان. البحر الذي يجاورنا يضفي من حولنا تلك المسحة الجمالية وتعانقه مع الطبيعة وعبقها، كل هذا مواضيع ملهمة للفنان لاستقاء مفرداته التعبيرية وطرحها في لوحاته، وأنا أنتمي للمدرسة التعبيرية الرمزية والمنفذة بشيء من العفوية والتلقائية متبعة أسلوب الغرافيك ومبدأه حفر الشكل الفني على كليشة مكونة إما من الخشب أو الحجر أو اللينوليوم أو مواد مختلطة، وبعد الانتهاء أقوم بطباعة العمل على القماش أو الكرتون، وأعمل أيضاً بطريقة المونوتيب، وهو المزج بين التصوير والحفر حيث أطبع أختامي التي سبق أن حفرتها على القماش ثم أكمل اللوحة بطريقة التصوير الزيتي بوساطة الريشة أو السكين.
وعن هدفها من العمل الفني توضح ديب: اللوحة غالية على الفنان، فقد ضمنتها هواجسي ومشاعري الخاصة، وتجربتي ومسيرتي في هذا الدرب، وعند بيعها يفتقدها الفنان لأنها أخذت مساحة من أحاسيسه ومشاعره واهتمامه، وكل لوحة أقف عندها طويلاً قبل وبعد الانتهاء منها، فاللوحة يجب أن تنتشر ثقافة فنية بصرية للمتلقي وتحقق الهدف الذي نفّذت لأجله العمل الفني هو نتيجة المزج بين المشاعر والهدف، فالفن التشكيلي هو نبض الحياة بالنسبة للفنان، وهو الأداة الحقيقية والفعالة للفنان لإيصال ما يختلج  في دواخله من مشاعر وانفعالات للمتلقين من خلال الفهم والتعبير والانسجام. الحضارات انتقلت إلينا عن طريق الرسومات الموجودة على جدران الكهوف وعلى الرقيم وعلى الأختام الأسطوانية، ويحضرني هنا الفنان الياباني هوكوساي حيث تعرّف الأوروبيون على الطبيعة والشعب الياباني من خلال لوحاته، فاليابان كانت مجهولة بالنسبة لهم في القرن الثامن عشر.
وعن مشاركاتها وأعمالها الفنية قالت: الفنان السوري أثبت حضوره في كافة الفعاليات العالمية، لأن الأعمال السورية تتمتع بصفة البحث الجاد المبدع، وقد استطاع العديد من الفنانين السوريين، الجمع ما بين الأصالة والحداثة، والفنان يتأثر بتجارب الفنانين الآخرين، نتيجة الاحتكاك الفني وتأمل اللوحات، مما يخلق حالة من الاندماج الفني فيتشكل عمل جديد ذو روح بصرية جديدة. لدي العديد من المعارض والمشاركات الداخلية والخارجية وأهمها مشاركتي في "بينالي" فينيسيا الدولي في إيطاليا عام 2017 بمشاركة 57 دولة عالمية، وهو أهم حدث واحتفالية للفن في العالم، وكانت تجربة أكثر من رائعة، فوجود أعمالي إلى جانب أميز الأعمال الفنية في العالم لمواجهة جمهور الفن والمهتمين من كافة أنحاء العالم، والمعارض مسؤولية كبرى تحملني أعباء كبيرة وتحفز الفنان للعطاء والإبداع المتجدد.
عملت بمجال الديكور ونقلتها موهبتها السحرية لعالم الطفولة، وحول ذلك تقول: عملت كثيرا في مجال الديكور كتصميم وتنفيذ، وتجربتي في هذا المجال كبيرة من تصميم وتنفيذ القاعات والمكاتب إلى السينما والمسرح، ولا بد يلتقي عملي في مجال الديكور مع خطوطي الملونة حيث يحققان الغاية ذاتها من توازن الكتل والمساحات والألوان مع الربط بين التراث والأصالة والحداثة، بمعنى أنني أطرح عناصري التي أستقيها من التراث بأسلوب حديث. عملت مع الأطفال ولهم، ففي بداياتي رسمت قصصاً للأطفال وخاصة في مجلة أسامة العريقة، ثم قمت بتجربة العمل مع الأطفال على رسم واجهات جدارية كبيرة في مواقع استراتيجية في اللاذقية، ولأعمار مختلفة. 

كما شاركت وزميلاتي الفنانات في ملتقى "أوغاريت" مع الجمعيات المختلفة من الأطفال ذوي الإعاقة ومرضى سرطان الأطفال، في إنجاز مجموعة من الأعمال الفنية الجميلة، تاركة لهم حرية اختيار الألوان والدرجات اللونية للتعبير بحرّية وعفوية.
وعن الحركة الفنية التشكيلية بسوريا ترى أنّ: الفن التشكيلي السوري والفنان السوري أثبت حضوره في كافة الفعاليات العالمية، لأن الأعمال السورية تتمتع بصفة البحث الجاد المبدع، وقد استطاع العديد من الفنانين السوريين الجمع ما بين الأصالة والحداثة، كما ظهر جلياً تأثر فنانينا بالأحداث التي يعيشونها.
مشروعها هو اللوحة، ومواضيعها هي التراث والتاريخ السوري القديم
الفنان سموقان المطلع على أعمال لينا ديب أعطانا رأيه فقال: فنانة جادة تعمل بصمت بعيدا عن الضجيج الاعلامي، مشروعها هو اللوحة، لوحتها السورية بامتياز؛ مواضيعها هي التراث والتاريخ السوري القديم، وتهتم بالتفاصيل الصغيرة برمزيتها والكبيرة بدلالاتها. عاشت التاريخ السوري وأساطيره وقدمته بطريقة مختصرة فيها الكثير من العشق للعنصر التاريخي الذي ينمو فوق سطح لوحتها. 
فنانة "غرافيكية" لها خصوصية عالية وذلك من خلال تلك الأبجدية التي نراها بأعمالها ضمن سياقات تشكيلية تتجاوب وتتجاور مع بعضها بعضا لتشكل الجسد النهائي لنصها. تواجه السطح الأبيض للقماش القطني دون خوف أو تردد لأنها امتلكت اللغة التي تبني بها عملها، فالرسم أو الخط هو ليّن ومطواع في يدها ويحيط اللون أو الشكل بكثير من الحنان والهدوء، أما المساحة البيضاء، فهي ليست عنصراً حياديا يستقبل فقط اللون، وإنما تمارس حضورها حيث تخاطب نظر المشاهد في بصره وبصيرته فتحرض المشاهد للمس اللوحة. 
ديب لا تأخذ العنصر من التاريخ كما هو وإنما تبدأ بمحاورته ليصبح لينا مطواعا في يدها فتقدمه كروح أكثر ما هو شكل، والملاحظ في لوحتها أنها تمزج في العمل نفسه تقنيات مختلفة من أجل إرضاء تلك العناصر التي تتموضع بدلال على سطح لوحتها، فهي تضيف لذلك المدى الذي يقدم للمشاهد فينمو تلقي الظل والنور لديه بعيدا عما يسمى الإبهار اللوني. ألوانها تدخل القلب بهدوء والمشاهد يفرح لهذا المدى وتلك النوافذ التي تفتح له للدخول واكتشاف سر راحته. لها أبجديتها الخاصة التي وصلت إليها بالمتابعة والجهد فعندما يتموضع الحرف على سطح اللوحة فإنها تخضعه للمعالجة المستمرة فيتبدل ويتحور ليصبح قابلا للدخول في سياق الجملة التشكيلية ضمن وظيفته الجديدة التي اكتسبها من خلال مقاربته مع العناصر الأخرى، ومن خلال الإضافات والاختصارات التي يتلقاها خلال تنفيذ العمل، وهكذا تتعدد الدلالات وتكتسب لوحتها قيما إبداعية جديدة، عشتار الخصب، الشمرا، البيوت الشرقية، أدوات الصيد، هي مفاتيح الدخول للوحتها. هي تعرف ما تريد من لوحتها وتسير بخطى حالمة واثقة لا تتوقف عن العمل على تطوير عملها حتى أصبحت اسما مهما في تاريخ التشكيل السوري، وهي تشبه لوحتها إلى حد بعيد.
يذكر أن الفنانة التشكيلية لينا ديب، حائزة على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة دمشق، وحاصلة على الجائزة الأولى في فن "الغرافيك" على مستوى سوريا عام 2005، وعلى العديد من جوائز التقدير للمشاركات الفنية التشكيلية، وهي محاضرة في كلية العمارة والفنون في جامعة تشرين.