مأزق التَّنوير بَين الأزهر الشريف والنُّخبة الشَّريفة.. أيضًا!

أكثر المتشائمين بحالة مشهد الخطاب الديني يقر بغياب التجديد والمجددين بل وانتفاء الخطاب المعاصر نفسه وسط تزايد العلل والأمراض الثقافية.

بقلم: بليغ حمدي إسماعيل

منذ سنوات ليست بالبعيدة كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد دعا المؤسسة الدينية الرسمية؛ بضرورة تجديد الخطاب الديني نظرا لحالات اللغط الواسعة بين عموم المصريين حول قضايا التطرف والعنف والإرهاب واستغلال تيارات وفصائل متعددة للإسلام والعمل تحت رايته لكن بصور غير متسامحة تتوافق مع طبيعة الدين والعقيدة . لكن منذ هذه الدعوة الوطنية ويبدو أن هناك حالة من عجز التلقي صوبها، بل وجدنا أن كل رهانات التلقي كانت نصية بعيدة عن التجديد، وأضحت اليوم دعوة جديدة تقودها النخبة مفادها ضرورة تطوير المؤسسة الدينية نفسها على مستوى الفكر الإداري والفكر الديني على السواء، وظهر كثير من هؤلاء النخبويين على شاشات الفضائيات يعلنون عدم قدسية الشخوص والرموز الدعوية المعاصرة والمتأخرة أيضا، وهذا ما دفع آخرون إلى سحبهم كرها وأحيانا طوعا إلى ساحات المحاكم بتهمة ازدراء الأديان.

وظهرت في الأفق من جديد ورقة التلويح بالتكفير ضد كل من يفكر أو يجتهد أو ينقد العقل الذي هو بالضرورة خلق ليؤول ويتدبر ويتأمل ويقيم المقروء والمسموع في ضوء مناهج نقدية مرنة وضوابط فكرية محددة . ونجح كثيرون أيضا في نقد المؤسسة الدينية حينما نقلت قضية تجديد الخطاب الديني إلى ساحات المحاكم وأروقة القضاء العالي حينما وجهوا سؤالا استثنائيا هو بحق حالة محرجة للمؤسسة الرسمية الدينية وهو كيف سيواجه الأزهر حملات التشيع الضاربة ببقاع مصر المحروسة؟ والأزهر ترك السؤال الحتمي وراح يحدد ملامح للمواجهة الرادعة لتنظيم الدولة الإسلامية داعش الذي هو بمنأى عن البيئة المصرية ومن الصعب التكهن باحتمالات وجود آثار فكرية له بين أوساط المصريين لكنه بالفعل مشغول بداعش وأخبارها.

أعلن آخرون أن مشاركة النخبة في عملية تجديد الخطاب تشكل منازعة بينها وبين المؤسسة الدينية وربما الأزهر لا يقبل تلك المزاحمة في التجديد بحجة الاختصاص الديني والفقهي، لكن بعيدا عن كل المساجلات التي استمرت لمدة عام وشهرين منذ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لشيوخ الأزهر وحتمية التجديد بل وإحداث الثورة الدينية لا ينبغي الغفلة عن مشهد الانفصال البائس بين الواقع الآني والإضافة الحضارية للفكر الديني الذي ربما مات بعد وفاة مجدد النصف الثاني من القرن العشرين الشيخ محمد متولي الشعراوي بعد سنوات بعيدة من التجديد الذي أرسى قواعده المجدد الأكبر الشيخ محمد عبده والذي كان وحده منفردا مدرسة وإمامة في التجديد والاجتهاد سار على دربه كل رواد النهضة العربية بعد ذلك .

وبالحملة التي تقودها النخبة ضد المؤسسة الدينية الرسمية نفسها تحتاج إلى مراجعات وضرورة تجديد وخلق مساحات أوسع من الاجتهاد، ترى أيضا أن فصائل الإسلام السياسي نجحت بكفاءة عالية في ظل اللغط السياسي والتوتر الاجتماعي بين أطياف المجتمع عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير لا سيما وأن كل طيف يسعى لتنصيب نفسه مفجراً وصاحبا للثورة، استطاعت أن تنتشر في نسيج المجتمع عن طريق تصريحات مشتعلة كاشتعال الحراك السياسي وقتها، وبل ونجحوا في إقناع الآلاف في أن خطابهم الديني هو طوق النجاة من أزمات مصر جميعها، والتدين فطري لدى المصريين، ونصوص الفراعنة الدينية القديمة تؤكد حالة الولع الديني لهذا الشعب، لكن أي خطاب هذا الذي دعا إلى الفرقة والعنصرية وترويج الفتن والانقسام؟

وفكرة الإضافة الحضارية هي المأزق الذي سنجد أنفسنا أمامه وفيه وحوله حينما نقف وسط حيرة أبنائنا وأحفادنا وأبنائهم عندما يقررون حقيقة العجز الذي أصابنا نحو التجديد في الفكر والخطاب والتلقي أيضا. فنحن نقر بوجود خطاب ديني متميز للشيخ الإمام محمد عبده، وعبد المتعال الصعيدي والشعراوي والعقاد ونصر أبو زيد وفضيلة الشيخ الدكتور علي جمعة وغيرهم، لكن المأساة حينما تمر السنون سريعة وتأتي أجيال تقر بحقيقة مغايرة بأن جيلنا بات الأكثر اهتماما بالمشهد السياسي على حساب التجديد في الفكر الديني وفي خطاب الثقافة أيضا.

أكثر المتشائمين بحالة مشهد الخطاب الديني يقر بغياب التجديد والمجددين بل وانتفاء الخطاب المعاصر نفسه وسط تزايد العلل والأمراض الثقافية، وراح هؤلاء المتشائمون يحصرون أعداد الجماعات الدينية والجماعات الثقافية من أجل تحديد المنتج النهائي لكلتيهما فكانت النتيجة غير مرضية؛ أصوات عالية وخطابات دينية وثقافية تفتقر للتوثيق والمعالجة الراهنة.

راح الأزهر نفسه يستنكر كل ممارسات الخطاب الديني المتطرف، والخطاب الثقافي لبعض جماعات الشباب الموتور والأكثر تقليدا لتيارات وافدة وغريب عن مجتمعنا العربي والإسلامي، لكنه لم يفعل شيئا حقيقيا تجاه التطرف والإرهاب وحملات التكفير بل وجد نفسه قاضيا وحاميا وأحيانا متهما أمام الذين يروجون لضرورة المشاركة معه في تجديد الخطاب الديني.

والملمح الصادق اليوم هو انفصال الخطاب الديني عن قضايا الوطن الدينية والاجتماعية والسياسية، فقد أعلن البنك المركزي أن أغلب المتعاملين مع البنوك المصرية الرسمية هم رجال ومشايخ الأزهر، وكأن شرعية التعامل جاءت من شرعية المتعاملين، رغم أن من رجال الأزهر أنفسهم وأنا شخصيا عملت لمدة خمس سنوات بالأزهر يحتاجون إلى مراجعات فقهية وإعداد ثقافي وديني طويل الأجل والبعض منهم وليس القليل من المتطرفين دينيا بغير حجة أو دليل واضح فقط الاستناد إلى طروحات إيرانية أو هندية أو أفغانية متطرفة.

وليس نقدا للمؤسسة الدينية الرسمية لكن مجرد رصد حالة واقعية وهي المشهد الإعلامي للأزهر ورجالاته، فنجد أن الظهور الديني بالقنوات الفضائية الرسمية غير مواكب لما تقدمه القنوات الخاصة من جودة في الإعداد والإخراج والتقديم والتقنيات التكنولوجية والتصوير والإضاءة، الأمر الذي جعل كثيرون من المصريون يهرعون إلى تلك القنوات لأنها تتوافق مع احتياجاتهم الانفعالية والجمالية والبصرية. فهناك حالة من الأداء التقليدي للإعلام الديني الرسمي في الوقت الذي دعا في الرئيس المستنير عبد الفتاح السيسي إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني الذي يشتمل بالضرورة على تجديد في التقديم والعرض أيضا.

الملح الآخر هو الإصدارات الدينية الرسمية التي نجد أغلبها بمنأى أيضا عن هموم الناس اليومية والعادية وهي غائبة بالفعل عن حاضر المجتمع وواقعه الراهن، ومن العجب أن ترى آلاف الرسائل والأطروحات الأكاديمية سواء من باحثي الأزهر أو من الجامعات المدنية تتناول المفاهيم الدينية وكيفية تنميتها وإكسابها ورغم ذلك ما يزال المجتمع يعاني لغطا واضحا في كنه هذه المفاهيم ولا تزال بعيدة الصلة عن عقول البسطاء.

كاتب وأكاديمي مصري