مأزق المشروع الإخواني بعد رحيل مرسي

تضرر مفهوم الدولة الإسلامية جدياً بعد سقوط سلطة الإخوان في مصر والقابل الحصول في دول إسلامية ذات تجارب مماثلة مع أحزاب إخوانية العقل في الجوهر بغض النظر عن الأسماء والمذاهب والأقطار فقد نهلت من الأفكار السياسية والاجتماعية والأخلاقية نفسها.

بقلم: حسين الهنداوي

خسر الإخوان المسلمون المصريون قبل سنوات فرصة ذهبية لن تتكرر ثانية، على المدى المنظور في الأقل، لإنجاح مشروع سياسي إسلامي يرتبط باسمهم. كان يمكن أن يمتد إلى دول عربية وإسلامية أخرى. فإخفاقهم التاريخي في حكم مصر عام 2013، أثبت أن الحركات الإسلامية الشمولية المؤسسة على استلهام النموذج الإخواني، وأحياناً في الفكر والبنية التنظيمية والممارسة معا، تسير عكس حركة التأريخ، وأن منظوراتها السياسية عرضة للإفلاس تالياً، وفي لحظة، لسبب بسيط جداً، وهو أن الجماعة، دون نكران تضحياتها ضد الأنظمة الدكتاتورية، لا تتعامل مع مفاهيم الديمقراطية ودولة المؤسسات وحقوق وواجبات المواطنة وحتى الانتخابات العادلة بنفس معانيها القانونية الأصلية، إنما من منظور يفترض قبليا الصحة المطلقة لشعارها المركزي (القرآن دستورنا)، المصادِر للرأي الآخر، والذي لا يعني في المطاف الأخير سوى جعل الكتاب الإسلامي المقدس حكرا لها وأداة لشرعنة وصايتها هي على الرعية. ولا يغير من الأمر أنها تقبل بالانتخابات آلية لا مناص منها، تكتيكياً، للوصول إلى السلطة، على الرغم من أنها لا تمارسها في حياتها الداخلية، فهذا القبول مرحلي وحسب، وبالتالي، لا بد من أن تنقلب الجماعة عليه في لحظة قادمة أو أخرى.

الجناح التونسي من الإخوان، حزب النهضة الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي الذي حكم في تونس لسنوات، لم يسقط كلياً بفضل صموده الصعب على بعض الاعتدال، إلا انه في أزمة وجود حقيقية. ولذا، هو لا يريد بأي حال من الأحوال تنظيم الانتخابات التشريعية المقبلة خشية المغامرة بخسارة السلطة الانتقالية التي اختطفها إثر فوزه بأغلبية في الانتخابات السابقة التي جرت قبل عامين قبل الطريقة المصرية إنما بطريقتها نفسها. وها هو المجتمع المدني التونسي يعاني سلفا من إقدام جماعة النهضة، ودائما بذريعة مكافحة الإرهاب وحماية أخلاق المجتمع، على وضع كل أجهزة الدولة التونسية تحت جناحي حزبه الأصولي الذي سارع إلى تنفيذ سياسة محمومة للهيمنة بإشراف الرجل الثاني عبد الفتاح مورو عبر تعبئة الشباب في معسكرات تدريب واختراق مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء والسعي إلى إضعاف القوى الديمقراطية المتمسكة بعلمانية الدولة التونسية، ومنعهم من أي نشاط سياسي من شأنه أن يعارض المشروع الإخواني لحركة النهضة التي مثل أي تنظيم أصولي آخر لا تؤمن بالانتخابات وبالديمقراطية، إنما استخدمت الانتخابات للوصول إلى السلطة لقطع الطريق نهائيا أمام أية تداول مقبل للسلطة.

ونائب رئيس حركة النهضة الإسلامية التي تقود الائتلاف الحاكم في تونس، عبر مؤخراً عن خشيته من انتقال العدوى المصرية إلى تونس معترفا أن بلاده دخلت مثل مصر على خط "تخلف اقتصادي، وتدهور اجتماعي، ومشاكل سياسية" لا تعرف عقباها. وهذا يفسر ربما رفض حركة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المماثلة الدائم لفكرة القيام بمراجعات نقدية عميقة لمشروعها عن الدولة قد تفضي إلى الاعتراف بوجود أو التراجع عن بعض الملامح القاسية فيه وخاصة في مفهومها عن لزوم تابعية الحياة السياسية للشريعة أي لقياداتها هي، ولا سيما إن هذا المفهوم الذي يوقف العقل عند لحظة الخلافة الراشدية قسرا، يقدم أو بالأحرى يفرض فكرة مخيفة وضارة بدولة يطمح معظم المواطنين إلى أن تكون إنسانية وديمقراطية وحديثة، هي فكرة الحاكمية الشاملة والنهائية للنخبة الأصولية العليا المتشددة والمطروحة بشكل غامض حتى في كتابات منظري الجماعة الأبرز، بدءا من حسن البنا إلى أبو الأعلى المودودي وإلى سيد قطب، وخاصة الأخير الذي قيد مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة بالمزيد من القيود والروادع إلى حد التضاد أحيانا مع معظم بل كل المبادئ والآليات الخاصة بالدولة الديمقراطية الحديثة إلى درجة نعت القسم الأكبر من المسلمين (أي غير الأصوليين) بالأعداء من الداخل الذين يجب التخلص منهم في المحصلة الأخيرة.

لقد تضرر هذا المفهوم جدياً بعد السقوط المدوي لمحمد مرسي وسلطة الإخوان في مصر، والقابل جدا للحصول في دول إسلامية ذات تجارب مماثلة مع أحزاب وجماعات إخوانية العقل في الجوهر بغض النظر عن الأسماء والمذاهب والأقطار لاشتراكها في النهل بشكل مباشر أو غير مباشر من نفس الأفكار السياسية والاجتماعية والأخلاقية، إذ من غير المتوقع أن تستفيد هذه الجماعات من فشل أخوان مصر وهم الجماعة الأعرق والأقوى والأدهى والأذكى.

 فهذه القوى والتيارات ستستنسخ الجماعة المصرية في الفشل كما استنسختها في اعتمادها أساليب باطنية العقائد والتنظيم وفي خلط الرسالة أو الدعوة الدينية بالأجندة والأهداف السياسية، تستنسخ بعضها البعض، في الاستفادة من طيبة وبراءة عموم المواطنين الأحرار لتقتل فيهم فكرة المواطنة والحرية والطيبة والبراءة في آن، أي إن الإيديولوجيا الإخوانية لا تحكم عقل الإخوان السياسي وحدهم، بل تحكم أيضاً عقل كل تلك الأحزاب والتيارات المسماة (إسلامية) والتي تجعل من محاربة الدولة (الفاسدة)، وتعني (العلمانية)، هدفا لها ما يجعل سقوط سلطة الإخوان المصريين في 30 حزيران 2013 سقوطاً لكل هؤلاء أيضاً.

كما لاحظ عدد من الكتاب المصريين، إن جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في أعقاب سقوط دولة الخلافة العثمانية، ظلت ومنذ أدبياتها التأسيسية التي كتب معظمها مؤسسها حسن البنا، تتحدث عن (الدولة الفاسدة) وتقصد غير الدينية سواء التي أسسها محمد علي باشا أو التي قامت على أساس دستور 1923 الذي كان أحد أهم منجزات ثورة 1919.

بكلمة أوضح، نحن نزعم إن المشكلة تعود جوهريا إلى إيديولوجيا حركة الإخوان المسلمين ذاتها ورؤيتها لطبيعة الدولة منذ نشأتها وحتى الآن. وهي رؤية مؤسسة كليا على ضرورة الإطاحة بالدولة المدنية التي يسميها جناحها المعتدل (الدولة الفاسدة)، فيما يسميها جناحها الراديكالي (الدولة الكافرة)، وهي الفكرة التي أرسى أسسها العميقة المفكر الإخواني الراحل السيد قطب الذي يستحق فكره ونشاطه وقفة متريثة هنا نظراً لأن كتاباته ومنظوراته السياسية تشكل الجزء الأكثر إثارة في ترسانة الايدولوجيا الأصولية التي تعتمدها حركة الإخوان المسلمين وغيرها من الحركات الإسلامية الأصولية الراهنة في الشرق الأوسط وفي المغرب وفي باكستان وأفغانستان والهند والجمهوريات الإسلامية المنسلخة عن الاتحاد السوفييتي.

نُشر في المدى البغدادية