ماذا بعد داعش.. لا يفل الحديد إلا الحديد

لا مفر من الإقرار بضرورة تشييد منهجية للبدء بمحاكمة خريجي فكر داعش وفقاً لقانون كل دولة عاثوا في أرضها فساداً فالقانون يبقى فوق الجميع كما لا بد من إحلال عدالة تقيم لحرمة الأرواح المسفوكة ظلماً وبعد ذلك نصبح على أهبة الاستعداد للاتفاق على سياسة عالمية موحدة.

بقلم: محمد البشاري

بالالتفات لوجهَي العملة، قد يكون قرار بعض الدول بحرمان «الدواعش» من فرصة استنشاق هواء الوطن، شافياً لغليلٍ جمعي لا فردي مما فعلوه من جرائم متناهية البشاعة والفظاعة، مست أشواكها التكوين الفكري وكونت جزءاً من الذاكرة من العسير نسيانه، إذ تعدى أثره لقلب النسيج المتوحد، وشوه لحمته وأمنه واستقراره، ولكنه بالوقت ذاته قد يمثل حلاً مجتزأً من حيث بنائه لدافع قوي لنشر حالة سكون وسكوت على باطل لدى «الدواعش»، وما أعنيه أن من وقع في جحر هذا التنظيم وأفكاره المسمومة يعتبر مجرماً وضحيةً في الوقت نفسه، مما يجعلنا نفكر في بتر «غرغرينا» هذا الداء عوضاً عن الوقوف على أطلاله لشتمه والتشفي منه، إذ تعتبر هذه الفئة معوزةً بشكل حاد لفكر ناضج ومنظومة رصينة وإعادة بناء وتأهيل أخلاقي فكري ثقافي ديني.

مع ذلك فلا يختلف اثنان من الشخص ذاته «أنت وذاتك»، على أن ما اقترفه أفراد هذا التنظيم لا يمكن التغاضي عنه ولا بشكل من الأشكال، أو اعتباره كأن لم يكن وبخاصة أننا نجد في صفوف «الدواعش» نسبة لا بأس بها من الأكاديميين والمتعلمين وحتى حملة الشهادات العليا، ونقف هنا عن سكب زيت الجهل على نار التطرف والمغالاة والخروج عن الإنسانية، فقد اختلط بزيت الجهل شوائب الاضطرابات النفسية التي تعتبر وليدة الاضطرابات المحيطية للفرد في تكوينه وعائلته ومجتمعه، إضافةً للمحق الثقافي والفكري.

لا أناقض نفسي هنا، فليس كل من حمل شهادة يعتبر مثقفاً أو على الأقل «نقي الثقافة»، إذ ربما نتعرض في رحلة الاطلاع والقراءة والبحث للوقوع في بحور الشعر على قوافي المتطرفين، دونما أي انتباه أو تشكيك، وهنا تبرز نماذج العقول أحادية القطب، المخصصة للاستقبال بلا إرسال، مما يؤكد الإصابة بتشوه في المخزون والوعي الديني الحق، فيتحول المرء من نهم للثقافة لمشكك في عقيدته! بينما الأديان تحتضن إيماناً شاملاً، ولا تقتصر على جانب دون الآخر، فلو سعى الإنسان لإشباع نفسه وروحه بالإيمان الحقيقي ما وصل بانحراف جسده لاقتراف أمور، ما كانت ولن تكن تمت للأديان والشرائع السماوية كافةً بصلة.

وبخاصة أن ما تقوم به هذه التنظيمات لم يعد في طي الغموض بتاتاً ونذكر ما صرح به الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، عن بؤرة الفساد تلك حين قال: «أعرف أنكم تسألون عن الإرهاب، وعن «داعش» وأخواتها وما أظنكم بغافلين عن حقيقة هذه التنظيمات المسلحة، والظروف التي ولدت فيها، وكيف أنها ولدت بأنياب ومخالب وأظافر، وكيف أنها صُنعت صنعاً لحاجة في نفس يعقوب، ومعنى في بطن الشاعر، وقد صار اللعب الآن على المكشوف، وظهر ما كان بالأمس مستخفياً وأصبحت هذه التنظيمات ألعوبة في يد من يحركها ويصنعها وتقوم بتجنيد الشباب مستغلة عدم معرفته بأمور دينه الصحيح».

كل ما ذكر في هذا السياق من استنتاجات ودراسات وبحوث، مهم، ولكننا نقف الآن في ميدان الأهم، خاصة بعدما أعلنت كل المراجعات ومشاريع إعادة التأهيل فشلها خلال مشروع صناعة صورة نقية للكرة الأرضية، وتطهيرها من دنس التطرف. وبين هذا وذاك أرى أنه لا مفر من الإقرار بضرورة تشييد منهجية رصينة للبدء أولاً بمحاكمة خريجي فكر «داعش» وفقاً لقانون كل دولة عاثوا في أرضها فساداً، فالقانون يبقى فوق الجميع، كما لا بد من إحلال عدالة تقيم لحرمة الأرواح المسفوكة ظلماً احتراماً، وبعد ذلك نصبح على أهبة الاستعداد للاتفاق على «سياسة عالمية» موحدة، عاملةً بهمم لجان متخصصة من الطراز الأول على معالجة الأسباب التي تحيد الأجيال ذات العقول الخضراء الغضة، عن دواعش التنظيم والمنطق.

 إضافة إلى فرز منظومة تشييد فكري رصين يقطع أشواطاً من حالة الضبابية والخوف وحالة تراطم المبادئ والقيم، وتعزيز منظومة العقد الاجتماعي ورعرعتها في النشء، المبنية على التسامح والوقوف كالبنيان المرصوص حفاظاً على الوحدة الوطنية التي تسمو بالتنوعات وبالتعدديات بعيداً عن قاع الغلو والتطرف، واستثمار الديانات في أبشع المشاريع الهادمة للحضارة، كما لا بد من تحصين أجيالنا، خاصة الشباب، وركزه بالدعم النفسي والمعنوي الذي يجعلهم أقدر على تجاوز محنة «عوائق التطرف»، والخوف من مخالب الماضي وغربانها الحائمة مستقبلاً في فضاء التطرف، ولربما الأهم هو إعادة إنعاش شريان الانتماء الديني، وتعزيز قيمه للخروج بهم من حالة التهميش والعزلة – المختلقة في بعض الحالات - إلى إدماج فعال بانٍ، ولمحاربة الفكر المتطرف بسواعد الشباب الذين حملوا في خواطرهم ووجدانهم ألم ما قدمه «داعش» لنسيج أوطانهم، حيث لا يفل الحديد إلا الحديد.

نشر في الاتحاد الإماراتية