مازن عرفة: في أوروبا نعيش الكوابيس السورية القاسية ليلا
صدرت للروائي السوري مازن عرفة رواية "وصايا الغبار" عام 2011، وهي تروي الإرهاصات الكامنة في المجتمع السوري كمقدمة لانفجار ثورة الربيع العربي. أما "الغرانيق" التي صدرت عام 2017، فقد كانت تعبير عن نجاح ثورات الربيع العربي ـ على الأقل في بداياتها ـ بتحطيم تماثيل الغرانيق، وتنهض رواية "سرير على الجبهة" التي صدرت عام 2019 على واقعة حقيقية حدثت في بلدته، فمع اندلاع المظاهرات الشعبية فيها،أحتل العسكر البناية التي يعيش فيها مع أسرته، وحولوها إلى "قاعدة عسكرية" هرب معظم قاطنيها بمن فيهم أفراد أسرته، وبقي فيها وحيدا متحديا. أثناء ذلك تحولت "البناية المدنية" المحتلة من العسكر إلى رمز لـ"البلاد" كلها.
بعد ذلك، وجد نفسه فجأة في ألمانيا مُهجر لاجئ، فصدرت الرواية الجديدة "الغابة السوداء" تعبيرا عن معاناة مُهّجر حرب ممزق بين الحنين لـ"حكايته السورية" المفتقدة التي دمرت أرضيتها المادية "البراميل المتفجرة"، وبين وجوده في منفى دون "حكاية جديدة"، لم يعد بقادر على بنائها في عمر متقدم، إضافة إلى ما يترافق مع ذلك من صعوبات الاندماج في مجتمع غربي جديد، طارئ على حياته، بارد عاطفيا، بالمقارنة مع حميمية مجتمعه الشرقي المفتقد.
ومع الروائي مازن عرفة أجريت هذا الحوار:
ـ أرى أن طريقة أسلوبك السردية التي تميز رواياتك الثلاث القائمة على الأحلام والكوابيس والخيالات السوريالية قد تعمقت في "الغابة السوداء"؟
الحياة ليست حكاية حلوة أو حزينة ببداية وذروة ونهاية كما يقدمها الأدب التقليدي عادة. حياتنا اليومية الحالية خاصة بلغت درجة من التعقيد بحيث لم نعد نعرف إذا المنفى هو في داخلنا أم خارجنا، وإذا الكابوس هو مجرد حلم ثقيل أو واقع حقيقي، وإذا نعيش في عالم حقيقي أم في محاكاة من الصور التي تستلبنا، بل إذا نحن حقا أحياء أم أموات أحياء.
الحروب والمجازر والخراب والتهجير الذي يرافقها، ودمار الكوارث الطبيعية، والجوع والفقر والمرض، جميعها كنا نتابعها بلا مبالاة على شاشات التلفاز، أصبحنا نعيشها الآن. لم نعد نخاف من دمار الحروب بقدر الذعر أن يكبس زعيم مجنون على زر نووي، أو أن يصطدم كوكبنا نيزك، فتتدمر الحياة البشرية في كلتا الحالتين.
بالمقابل، لم تعد الأديان، ولا المنظومات الأخلاقية، ولا الفلسفات الطوباوية بقادرة على استيهامنا أكثر. لم يعد لدينا كاريزمات سياسية أو فكرية نستند إليها، بل مجموعات مختلة نفسيا من زعماء مافيات، وديكتاتوريين عسكر، ورجال دين ممسوسين، وزعماء أحزاب عنصريين مخبولين، وهم الذين يقودون الآن الدول والمجتمعات نحو الدمار، وإلى جانبهم تنهض في بلادنا مجموعات بهاليل من زعماء طوائف ومذاهب وعشائر وعائلات وأثنيات يعيشون في تخريفات ما قبل العقل والحداثة... الإنسان الفرد في هذا العالم لم يعد فقط مهمشا ومستلبا، بل محطما وممزقا، أصبح لا شيء، يشعر بالرعب من الغد، دون معرفة لماذا.
ـ لهذا تنعكس هذه العوالم المدمرة بمرارتها على كتاباتك الروائية؟
في مثل هذا العالم الممزق هل من الممكن لوسائل التعبير الإبداعية، وعلى رأسها الأدب، أن تبقى تقليدية؟ لا، فاللغة نفسها تتمزق، والأساليب الأدبية تنهار، والبوصلات تختفي. لذلك، تتداعى في كتاباتي أحلام اليقظة، والكوابيس المرعبة، والمونولوجات الذاتية الداخلية، وصولاً إلى حد الهلوسة، واختفاء الحواجز بين الواقع واللاوقع، هي عوالم الجنون واللامعقول والفصام والضياع. استخدم دائما في جميع رواياتي ضمير المتكلم "الأنا" الذي يتشظى إلى عشرات الشخصيات الممسوسة، تعبيرا عن الفصام في حياتنا، ولأن الجميع ينهض من جذور الجنون نفسها، حتى روايتي تستطيعين قراءتها مفتتة بعدة طرق. اختاري أي فصل منها، ويكون هو البداية، اقرئي الفصول بطريقة معاكسة، اخلطي الفصول، وشكلي منها ترتيبا جديدا... ألا نمارس أحلام اليقظة هكذا يوميا، بل إن أحلامنا، أو بالأحرى حياتنا التي تحولت إلى كوابيس، تتحرك بالوتيرة نفسها، تشظ دائم، دون بدايات ونهايات.
ـ لكن في سوريالية "الغابة السوداء" أصبحت التخوم بين الواقع واللاواقع ممسوحة بالكامل، ليس هناك واقع، إنما هناك شيء يرتج بين وجود ولا وجود؟
لأن طبيعة الكوابيس تراكبت في حياتنا الحالية أكثر فجأة نكتشف أنه لم يكن لدينا "وطن"، وإنما "منفى وحشي" في مكان ولادتنا، ويلاحقنا في أي بلد ننتقل إليه. في أوروبا نعيش الكوابيس السورية القاسية ليلاً، حيث تركت الاعتقالات والمجازر والبراميل المتفجرة بصمة في حياتنا نعيشها حقيقة، كأننا مازلنا في سورية. وعندما نستيقظ نجد حولنا الأمان والطعام والنظام، لكن تبدأ كوابيس جديدة، كوابيس نهارية، إنما من نوع آخر.
ـ أفهم أن حياتنا العربية كلها كابوس يومي نعيشه، لكن هل لديك في أوروبا كوابيس؟
نعم، ومن هنا انطلقت فكرة "الغابة السوداء"، منذ أن وصلت ألمانيا أستيقظ من كابوسي السوري الليلي، وأجلس على شرفة منزل جميل، هادئ وآمن، لكن الشارع مقفر تماما من الناس، فقط تصطف فيه سيارات حديثة، لا أعرف متى تتحرك. وإن مر أحد من الجيران مصادفة، فإنه يركض بين سيارته وشقته. لا يلقي التحية، فكيف بالحديث معه. في مخزن الشراء عاملات الصندوق مدربات أوتوماتيكيا على "هالو" و"إلى اللقاء" فقط، في ضغط العمل الشديد، فيما الزبائن يتحركون كصور، غير مبرمجين على الحديث. خذي الأمور رمزيا لمجتمع منغلق اجتماعيا، ممزق عاطفيا، يحترم حقوق الإنسان بالكامل، لكن يقدسه كآلة عمل.
ـ وكيف عكست ذلك في كوابيس نهارية؟
أمام هذا الواقع تداعى إلى ذهني كتابة نص عن مدينة، أو بالأحرى عن عالم، دون أناس بالمطلق. وكانت مغامرة فكرية جريئة. هكذا يستيقظ البطل "الأنا" كل صباح، كأنه أول صباح، من كابوس ليلي، في مدينة دون أناس، في شقة ليس فيها أي جهاز اتصال، فاقدا للذاكرة، لا يعرف من أين أتى، ولماذا هو هنا، لا يعرف نفسه، فهو عندما يقف أمام مرآة، لا يشاهد فيها أي انعكاس، لا يعرف أي لغة يتقن، لأنه لا يتحدث مع أحد، لكنه يتحول في متجر مبيعات، دون ناس، أمام مرايا متقابلة إلى نسخ لانهائية من ذاته، بوجوه ممحية، نسخ كما في "الأكوان المتوازية"، ثم يكتشف أنه يختزن في ذاته مئات الجثث التي ماتت في المعتقلات وتحت جنازير الدبابات والبراميل المتفجرة، تلاحقه وتستحثه أن يكتب حكاياتها حتى تستطيع أن ترتاح في قبورها. بعد ذلك، تشتعل المدينة بالناس بشكل كثيف، فإذا هم نسخ متكررة من هلوسات البطل. تظهر النسخ فجأة من رأسه تلاحقه، وتختفي فجأة.
ـ كأنك استخدمت هنا عوالم الهلوسات كأسلوب تقني، لكن البطل يبدو أنه يدور أيضا في متاهة دون بداية، ودون نهاية، نوع من محاكاة، مبرمجة له، تتكرر مشاهدها وأحداثها باستمرار، أليس كذلك؟
هذا متروك لخيال القارئ، فليس هناك نسخ أنس هلوساته فقط، وإنما نسخ المنازل والحدائق والشوارع أيضا، في عالم تغلقه حدود محكمة، غابة مظلمة، ومدينة مسورة مخفية، وسماء بغيوم صلدة، لا يُعرف ماذا هناك خلفها جميعا.
ـ من أين أتتك فكرة الربط بين كوابيس الليل السورية وكوابيس النهار الألمانية؟
ذات مرة في دمشق سقطت بالقرب مني قذيفة هاون، حماني بالصدفة حاجز أسمنتي من شظاياها. أحدهم كان قربي، لكن بعيدا عن الحاجز، فثقبت الشظايا جسده. نجوت أنا من موت محتم، لكن صوت القذيفة الهائل مزق دماغي من الداخل بشواش مستمر. وبعد مرور عدة سنوات على هذه الحادثة، ما يزال هذا الشواش يرافقني باستمرار، مع أن الأطباء، وبعد فحصي بالرنين المغناطيسي أكدوا أن رأسي سليم بيولوجيا. هذا الشواش هو الرابط الرمزي بين كوابيس الماضي "الليلية" وكوابيس الحاضر "النهارية". يرافق هذا الشواش جميع أبطال رواياتي، كقاسم مشترك بينهم. لكن في "الغابة السوداء" يختلط شواش الحرب بشواش مجتمع خانق، منغلق على ذاته.
- لكن النصف الأول من الرواية كان شبه واقعي بعكس النصف الثاني السوريالي الكابوسي؟
بطل الرواية يعاني نفسيا من "صدمة الحرب"، وكان عليّ إخراجه من منتجع المعالجة لفترة من الوقت، بدعوى شفائه، الذي تبين أنه مؤقت، وذلك كي أقدم صورة عن المجتمع الألماني البارد اجتماعيا حوله. في القسم الثاني، لا يحمل البطل في روحه انعكاس الكوابيس السورية فقط، بل والكوابيس الألمانية أيضا، اعتمادا على القسم الأول.
ـ لكن في النهاية يتضافر العالمين ليخلقا معا هذا العالم السوريالي المجنون؟
تماما، لذلك يسمع البطل أنين الموتى الذين يرافقون ذاكرته من المذبحة السورية ـ والمثال هنا مدينة داريا ـ وأنين الموتى الألمان من مجازر الحرب العالمية الثانية.
ـ هي الحروب تدمر المدن، وتمزق الأرواح، لكن ما بين داريا السورية وبفورتسهايم الألمانية فروقات كبيرة، هل توحي بأن مسقط الرأس لا شيء بأهميته، مهما كبر أو صغر؟
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عمدت الدولة الألمانية إلى جمع الأنقاض الهائلة للمدن المدمرة في تلال، نمت فوقها مع الزمن غابات. ونهضت فوق قممها النصب التذكارية الداعية للسلام ونبذ الحروب، وكي تتذكر بها الأجيال الجديدة بشاعة النازية، وما سببته من دمار، ليس للدول الأوروبية فقط، بل ولألمانيا نفسها أيضا. أحد هذه التلال ينتصب عاليا في طرف مدينتي بفورتسهايم يمكن مشاهدته أينما تحركت فيها، فيتداعى إلى ذهني، ليس أنقاض التلال، بل الجبال التي يمكن أن تنهض من أنقاض المدن والبلدات السورية. لكن لم يكن الهدف في سوريا هو تدمير المدن وذبح الناس، وإنما محي "الحكاية السورية" بكل بساطتها وطيبتها من الذاكرة، من أجل خلق وقائع ديمغرافية جديدة بأهداف سياسية لدول المحيط الإقليمي والدولي.
ـ ركام المدن المدمرة وصراخ الضحايا البشرية تحتها الذي يسمعها البطل عبر هلوساته هي رمز لبشاعة الحروب التي تدمر المجتمعات البشرية بمجازرها الوحشية وكأن الحكاية تتكرر باستمرار، وكأنك تريد عبور الثقافات بأدب المنفى؟
طالما هناك ديكتاتوريون وزعماء ممسوسون يقودون العالم، ومادامت النزاعات الدينية والطائفية والنصرية والأثنية في مجتمعاته، فالحروب بوحشيتها مستمرة، والضحية هي الإنسان.
ـ لماذا اخترت "الغابة السوداء" كعنوان لروايتك، وهي اسم منطقة محددة في ألمانيا؟
عام 1902 كتب الروائي الشهير البولوني الأصل جوزيف كونراد رواية "قلب الظلام". يسافر فيها البطل الأوروبي إلى قلب أفريقيا، إلى "قلب الظلام"، حيث يستعمر الأوروبيون البلاد. ويكتشف هناك أن لا فرق بين ما يسمى "الشعوب المتحضرة" وما يسمى "الشعوب المتوحشة"، وإنما الأصل هو الظلام ـ الفساد المتوحش داخل الإنسان، بغض النظر عن المجتمع الذي ينتمي إليه، حتى تلك التي تدّعي أنها حضارية. سيستعيد فكرة هذه الرواية بالكامل المخرج الأميركي فرانسيس كوبولا في فيلمه الشهير "القيامة الآن" في عام 1979، إنما سينقل الأحداث من قلب أفريقيا إلى "قلب ظلام" جديد إلى فيتنام أثناء القصف الأميركي لها.
فكرة ظلمة النفس البشرية ستلاحقني دائما، وحاولت أن أجد لها ترميزا مقابلاً في "الغابة السوداء" التي سميت سوداء بسبب كثافة أشجارها الصنوبرية التي تجعلها دائما متشحة بالظلال. لكن الغابة السوداء هي منطقة جغرافية واسعة تنهض فيها بلدات ومزارع ومصانع نبيذ، وسكانها لهم تقاليد شعبية مميزة، فالسواد هو من الظلال وليس من الظلمة.
ـ كيف استخدمت هذا الرمز في روايتك؟
البطل قادم من منطقة حرب شهد فيها المذابح والتدمير، وهو يحمل في داخله ظلمة الكوابيس، مثل غابة لا يمكن اختراقها. لكن ذات مرة اصطحبتني صديقة ألمانية إلى أحد مداخل الغابة التي تنهض في طرفها شجرة ضخمة بفتحة في الجذع. ومنها أخرجت دفتر ذكريات، كانت قد كتبت فيه نصا بعض المتنزهين المارين بالشجرة، يستخرج الدفتر ويضيف إليه نصا، تحية، شعرا، قصة حبه... وكأن ما يكتبه هو "تعويذة سحرية"، تنفتح له الدروب في الغابة. هكذا، قررت أن أمنح بطلي القدرة على رواية حكايته السورية، فيتخفف بها من ظلمة روحه، وتصبح "الغابة السوداء" فيها "الغابة المنيرة".... رواياتي جميعها تنهض على "الحكاية السورية" حتى تكشف وحشية الديكتاتوريات، وكي لا تبقى جرائمها كابوسا مظلما في الأرواح المعذبة.
ـ النهاية كانت غريبة، بعدة أسطر، وسميتها "البداية". تعود نسخ من البطل إلى سوريا وتحلق فوقها... لا تجد أحدا في البلاد، بدءا من العاصمة دمشق، لا من أهلها، ولا حكامها، ولا الجيوش الغازية، و لا الميليشيات الأجنبية... لا شي فيها أبدا سوى الخراب والحرائق، سوى "العدم".
النص يتحدث عن نفسه في الفيزياء الكوانتية العوالم تتفجر من "العدم".
ـ سؤال أخير، لماذا اخترت مدينة داريا السورية بالذات؟
لأنها عنوان روايتي القادمة التي ستصدر قريبا.