ما بعد غزة: التحولات العميقة في الشرق الأوسط

الكونغرس بتصفيقه لمجرم الحرب نتنياهو إنما يفضح نفسه وانحيازه لإسرائيل.

أرسى الاحتفاء بكلمة نتنياهو في الكونغرس الأميركي مبدأً جديداً في العلاقات الدولية، حيث تحولت الإبادة الجماعية برعاية وترحيب المؤسسة الدستورية الأولى في الولايات المتحدة الأميركية إلى أداة مقبولة في حسم النزاعات.

هذا السلوك المشين يهدد الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية ويفتح الباب أمام المزيد من الصراعات والاضطرابات، بعد ان انتقل الكونغرس رسميا من ادعاء نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم الى صفته كشريك في ارتكاب أفظع الجرائم ضد الإنسانية.

لم يكن الموقف الرسمي الأميركي مفاجئًا، لكن تصفيق الهيئة التشريعية لمجرم حرب كان خطأ فادحًا. هذا التصرف لم يكن مهينًا للمجتمع الدولي فحسب، وانما شرع لدخول المنطقة في المزيد من التطرف، وقوض فكرة السلام.

ومع اتفاق الجميع ان مستقبل السلام العالمي يتوقف على كيفية إدارة الصراع في غزة، فان فشل المجتمع الدولي في ادارة هذا الملف يعمق من يعمق من أزمة الثقة في المؤسسات الدولية، ويشجع على انتشار الفوضى والتطرف.

في المقابل يخوض الاسرائيليون هذه الحرب وهم في اعلى جهوزيتهم القتالية وقدراتهم التدميرية، لكن من سوء حظهم انهم يخوضونها في الوقت الخطأ، وبالطريقة الخطأ، فحجم الدماء التي سالت في غزة تعني انفصالا تاما عن الرأي العام في العالم.

لاحظ على سبيل المثال ردة فعل الشارع الاميركي قبل يومين ازاء كلمة نتنياهو والاحتجاجات الضخمة لآلاف المؤيدين لفلسطين التي عمت شوارع واشنطن مطالبين بوقف الحرب ووقف تزويد إسرائيل بالسلاح، ولم يكن امام نتنياهو الا ان يتهم إيران بتمويل المتظاهرين.

اما من حيث التوقيت فان فتح عدة جبهات من لبنان الى اليمن، تسبب بفشل خطة نتنياهو في عزل غزة عن محيطها العربي والاسلامي، وان لم تكن لتلك الجبهات من فائدة الا افشال قدرة الصهاينة على التحكم في مخرجات الحرب في غزة لكان كافيا.

لقد سعت الادارة الاسرائيلية منذ الايام الاولى الى خلق رأي عالمي ضد حماس، وسعت الى عزل غزة عن الضفة، والى تشطير المنطقة المحتلة، لكن دخول عدة محاور في الحرب فتح غزة على عالمها العربي والاسلامي، بل وجلب لها تعاطفا انسانيا عالميا واسعا.

ولذا كان استقبال الكونغرس بمثابة القشة التي حاول ان يتعلق بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني لتصوير ان المؤسسات الديمقراطية تقف الى صفه، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، فيما ظهر الكونغرس بصورة الراعي للإبادة.

وهذا ما اشار اليه ناثان هيرش بصحيفة هآرتس الإسرائيلية حيث نشر مقالا بعنوان: "لماذا يجب أن يقاطع الديمقراطيون في أميركا خطاب نتنياهو؟" كتب فيه: "من خلال منح الشرعية لرئيس وزراء ضعيف سياسياً في الداخل، يعزل الديمقراطيون في الكونغرس حلفاءهم الطبيعيين في إسرائيل، ويساعدون في تعزيز فلسفة سياسية للموت والدمار".

ولم يعد الشعور بالأسى إزاء الدعم الأميركي لحرب الإبادة يقتصر على الفلسطينيين فقط، وانما اخذ عدد المتضامنين معهم حول العالم يتزايد، الامر الذي يخشى فيه ان تنخرط مناطق جديدة في دوامة العنف والعنف المضاد.

لذا فان اهم ما ينبغي فهمه ان الشرق الأوسط لم يعد شرقًا للاحتلال والابتزاز، وإنما تحول إلى شرقٍ للتحديات المتشابكة، ومن الخطأ الاعتقاد ان ما قبل حرب غزة يشابه ما بعدها، فالاحتفاء بالإبادة ثمنه باهظ. فالحروب تولد حروبًا، والدماء تسيل دماء.