ما حاجة مجتمع ما بعد عصر المعرفة إلى رجال دين؟!

الوظيفة الدينية لمن يتصدى للتفقه تقع نصا تحت عنوان في سبيل الله وبالتالي أي خروج عن هذا السبيل نحو مصلحة فردية أو لطلب أمتياز شخصي أو دنيوي هو خروج عن غائية العمل لأجل الله والإنسان، التأطير التنظيمي وما يتبعه من توصيفات وأمتيازات ومصالح فردية أو فئوية لا يمكن أن يكون في سبيل الله ولا لأجل مصلحة المؤمنين طالما أن الهدف غير مطابق للنتيجة الواقعية.

بقلم: عباس علي العلي

هل تعتقد أن وجود منظومة رجال الدين ومن ورائها هيكلة المؤسسة الدينية (بدعة تأريخية) قلد فيها المسلمون من سبقهم من أهل الديانات القديمة؟ وهي نتاج واقع تنظيمي أكثر من كونها حاجة تتماشى مع دعوية الإسلام ومن صلب متطلباته الصميمية؟

الجواب: نعم وبكل قوة أقول أنها بدعة سلفية تأريخية لا أصل لها في الفكرة الدينية الإسلامية ولا موجب لها طالما أن الله تعالى أوكل للإنسان الفرد مسؤولية التبصر والتدبر والسعي لمعرفة الدين من خلال رد م أستشكل عليهم من أمورهم إلى الله بمعنى العودة لكتابه وللرسول كونه الشاهد والبشير والنذير، التنظيم ضروري جدا في حياة الأمم والمجتمعات وهذه الحقيقة لا خلاف عليها ولا أختلاف في أهميتها، الإشكالية التي نعترض عليها هو تحويل الدين إلى مؤسسة مغلقة كهنوتية الإدارة تمتلك لوحدها وتحتكر المعرفة الدينية وكأنها وكالة من الله ورسوله على العقل الإنساني، فما صح منها فهو الصحيح وما ترفضه هو الباطل.

هنا يكون التنظيم الديني المغلق نوعا من الشرك بالله وتعديا على مفهوم رد الأمور إلى جهتي التشريع والتبليغ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59، هذا يتناقض حتى مع مفهوم أولي الأمر الوارد في نصية الطاعة، حتى وصل الأمر أن بعض رجال الدين يكتب في ما يكتب من أجتهاد ومعرفة يتقنها أنها (مبرئة الذمة) لمن عمل بها، بمعنى أن الخروج من أحكامه التي يستنبطها لها المعصومية من الباطل وبالتالي الخروج عنها خروج عن الدين.

هذا التعدي أوصل البعض إلى تكفير الكثير من المسلمين لمجرد الاختلاف في التخريجات الفقهية الجزئية مع أن كل المسلمين أفتراضا هم مؤمنين بالله ورسوله، خاصة وأن الأتفاق على جوهرية معنى (أولي الأمر منكم) لم يتفق المسلمون وأقصد بهم من ينتمون إلى المنظومة التنظيمة المسماة رجال الدين على مفهوم موحد حتى يتم الرجوع والطاعة لهم، فمنهم من وسع الأمر لحدود الأفراط في أدخال مسميات تحت هذا العنوان وصل في البعض جعل من القادة السياسيين ولو كانوا فجرة وفاسدين وعلى خط مخالف تماما للعدل والإحسان تحت يافطة أولي الأمر، في حين ضيق البعض المفهوم وجعله داخل دائرة محددة بالأسماء والأوصاف دون النظر إلى حاجات التطور والتوسع الذي يفرضها عامل الزمن والواقع العملي.

الوظيفة الدينية لمن يتصدى للتفقه تقع نصا تحت عنوان (في سبيل الله) وبالتالي أي خروج عن هذا السبيل نحو مصلحة فردية أو لطلب أمتياز شخصي أو دنيوي هو خروج عن غائية العمل لأجل الله والإنسان، التأطير التنظيمي وما يتبعه من توصيفات وأمتيازات ومصالح فردية أو فئوية لا يمكن أن يكون في سبيل الله ولا لأجل مصلحة المؤمنين طالما أن الهدف غير مطابق للنتيجة الواقعية، وهنا يقع التقاطع ما بين الوظيفة الأساسية والواقع العملي الذي نعيش مساوءه اليوم، فالإنسان كما هو مكلف بمعرفة الدين وقواعده وأسسه والنجاة من الأنحراف بهدف الفوز والفلاح، مطلوب منه أيضا أن يعيش الحياة كإنسان كادح وعامل ومتحسس ومتفاعل لتجربة العمل من أجل البقاء، ليكون على تماس حقيقي بين ما يتفقه به وبين متطلبات الوجود اليومي والتفصيلي له.

لقد أورد القرآن وبصورة غير متحفظة عن قصص معيشة الأنبياء وطريقة ونمط حياتهم العملية كمثال ليتقي البعض من التعالي عن العمل والكسب، كما أورد التأريخ الإسلامي صورا عن طبيعة ممارسة الحياة اليومية للرسول أو لقادة الجيل الأول من المسلمين، كان ابو بكرا وعمرا وعثمان ومع توليهم مهام القيادة يمارسون عملهم المعتاد بالتجارة والعمل في الأسواق، حتى الإمام علي لم يستنكف أن يكون فلاحا أجيرا عند الملاك بعظيم منزلته وعلمه ، لقد حول رجال الدين في العصور اللاحقة مفهوم الداع إلى الله كأباطرة مال وسلطة وجاه ونسوا أن التفقه تكليف شرعي كفائي وليس تشريعا بالتشريف لهم لأنهم زعموا أنهم رجال دين فقط.

لم يحدث هذا الوضع السلفي التأريخي المنقول من عادات وقيم ونتاج المجتمعات الدينية التي سبقت الإسلام لولا عملية التأطير وتقسيم السلطة في المجتمع إلى دينية ودنيوية، وما لحق هذا التقسيم من محاكاة لتلك الاقوام والأمم وأتخاذها قدوة بالرغم من نهي النبي من أن يحذو حذوهم أو يسلكوا طريقهم، أراد نبي الإسلام من المجتمع الجديد أن يخوض تجربته معتمدا على أحكام دين سعى لتقليص الفجوة بين الفكرة الدينية الداعية للعدل والإحسان وسبل الخير، وبين الواقع الذي فرضته سطوة المؤسسة الدينية الكهنوتية السابقة على أفرادها ومارسته تحت عنوان إرادة الله وضرورات الإيمان بها، النتيجة أن المسلمين بهذا الحال وصلوا أيضا إلى نفس النقطة الحرجة التي إنساقت لها المجتمعات القديمة وحصدت الخراب.