ما غيّره سقوط الشاه...

اسّس جيمي كارتر لسياسة أميركية تقوم على مراعاة ايران الى ابعد حدود. لم يتغير الكثير رغم مرور أربعين عاما.

في مثل هذه الايّام، قبل أربعين عاما، غادر شاه ايران محمّد رضا بهلوي طهران الى غير رجعة. مهّد ذلك لعودة آية الله الخميني من منفاه الباريسي ولقيام "الجمهورية الإسلامية" في ايران. تغيّرت المنطقة كلّيا جراء هذا الحدث الذي يعتبر بين الاهمّ التي شهدها القرن العشرين نظرا الى انّه اسّس لمرحلة الصراع المذهبي السنّي – الشيعي الذي باتت تعاني منه، الى يومنا هذا، كلّ دولة من دول الشرق الاوسط تقريبا.

لعبت عوامل عدّة دورها في اجبار الشاه على الرحيل مع افراد عائلته. في مقدّم هذه العوامل ان ما شهدته ايران في السنوات، التي سبقت اضطرار محمّد رضا بهلوي الى المغادرة، كان ثورة شعبية حقيقية.عبّرت عن الثورة التظاهرات التي شهدتها المدن الايرانية والتي شارك فيها مواطنون من كلّ الفئات الاجتماعية والتيّارات السياسية، خصوصا تلك المنتمية الى اليسار، وذلك قبل ان يتمكن الخميني من وضع يده على كلّ مفاصل السلطة وتفاصيلها. حوّل الخميني ايران الى قاعدة لـ"تصدير الثورة" الى دول الجوار، على رأسها العراق ودول الخليج العربي. لا تزال ايران تعمل الى اليوم بهذا الشعار الذي يغطي على الفشل الذريع في إقامة نظام افضل من نظام الشاه، نظام اكثر عدالة وانفتاحا على العالم المتحضّر، نظام يوظّف ثروات ايران في خدمة المواطن.

كان متوقّعا ان تتحوّل ايران الي نظام ديموقراطي، خصوصا انّ مجموعة كبيرة من المثقفين الذين يعرفون العالم انتقلوا الى الواجهة وشكلوا الوزارة الاولى برئاسة مهدي بازركان. كان بازركان رجلا زاهدا يمتلك ثقافة واسعة يغلب عليها طابع الاعتدال. كان ينتمي الى "حركة تحرير ايران" التي ناضلت من اجل العودة الى دستور العام 1906 الذي كان دستورا متقدّما في كلّ المجالات، خصوصا بالنسبة الى الحرّيات العامة وحقوق المرأة.

ثمّة عامل آخر لعب دوره في سقوط الشاه. يتمثل هذا العامل في شخصية محمّد رضا بهلوي نفسه من جهة واصابته بالسرطان من جهة أخرى. كان الشاه رجلا مترددا الى حد كبير. زاد المرض الذي كان يعاني منه من تردده وجعله عاجزا عن اتخاذ أي قرار على الصعيد الوطني. عطّل دور الجيش الذي كان مستعدا لقمع التظاهرات وفضّل اتخاذ موقف المتفرّج على الرغم من كلّ التقارير التي كانت تصل اليه عن خطورة الخميني والدور الذي كان يلعبه أنصاره من اجل الدفع في اتجاه الاستيلاء على السلطة.

يظل كتاب "سقوط الجنّة" (The Fall of Heaven) لاندرو سكوت كوبر (Andrew Scott Cooper) الصادر في العام 2016 احد افضل المراجع الموثّقة توثيقا دقيقا بالغ الجدّية عن السنوات القليلة التي سبقت سقوط الشاه ونظامه وكيفية سيطرة الخميني على السلطة لاحقا واستبعاده كلّ العناصر الليبرالية واليسارية التي ساهمت في نجاح الثورة الشعبية في ايران.

ما يلفت في الكتاب أيضا هو الموقف الغربي الحائر من الحدث الايراني. لم يكن هناك ايّ عداء أميركي او أوروبي لعملية التغيير في ايران، بل كان هناك تشجيع لها. الدليل على ذلك موافقة فرنسا على استقبال الخميني في نوفل لو شاتو، احدى ضواحي باريس، وعلى السماح له باستقبال من يشاء وتوجيه الرسائل التي يشاء واجراء اتصالات مع من يشاء.

مهاجرون إيرانيون يرفعون صورة الشاه في لوس انجلوس
الشاه ما زال موجودا في لوس أنجلوس

عندما نعود الى السنوات التي تلت مباشرة قيام "الجمهورية الإسلامية"، نكتشف ان العرب عموما لم يتخذوا موقفا معاديا من الثورة الايرانية. على العكس من ذلك، رحّبوا بها. امّا الولايات المتحدة، فكانت تتوق الى تجديد العلاقات مع ايران واعطائها زخما. في كتاب "الجاسوس الطيّب" ) The Good Spy) لكاي بيرد (Kai Bird) المخصص لسيرة حياة بوب ايمز مسؤول الشرق الاوسط في وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (CIA)، وقتذاك، فصل عن العلاقات بين ايمز وايران في مرحلة ما بعد الثورة وتحذيره المسؤولين الايرانيين من نيّات صدّام حسين واحتمال شنّ العراق لهجوم على ايران. لم تكن اميركا معادية للثورة الايرانية في ايّام الشاه وفي مرحلة ما بعد سقوطه. على العكس من ذلك، كانت هناك مراعاة اميركية فوق اللزوم لإيران في ظلّ رئيس أميركي اسمه جيمي كارتر لا يشبه تردّده سوى تردّد الشاه.

اسّس جيمي كارتر لسياسة أميركية تقوم على مراعاة ايران الى ابعد حدود. سقط في التجربة الاولى التي خاضها مع ايران عندما لم يردّ على احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979. نفّذ عملية عسكرية فاشلة بواسطة طائرات هليكوبتر حاولت نقل جنود اميركيين الى طهران لإنقاذ الرهائن. دفع كارتر ثمن جهله لما هي ايران ومعنى التحوّل الذي طرأ في 1979 وتفرّد الخميني بالسلطة وإقامة نظام الوليّ الفقيه. دفع كارتر غاليا ثمن تراجعه في ايران التي عقدت صفقة، بطريقة غير مباشرة، مع دونالد ريغان الذي حال دون عودة الرئيس الديموقراطي الى البيت الأبيض في انتخابات خريف 1980. كان كافيا امتناع ايران، حيث حلّ المتشددون في كلّ مكان وتخلّصوا من حكومة مهدي بازركان، عن اطلاق رهائن السفارة الاميركية قبل موعد الانتخابات حتّى يسقط كاتر امام ريغان.

منذ 1979 تغيّر الكثير في المنطقة ولم يتغيّر شيء في ايران. لم يتغيّر شيء أيضا على صعيد العلاقة الاميركية – الايرانية ولم يطرأ ايّ تعديل على المشروع التوسّعي الايراني الذي استهدف في البداية المملكة العربية السعودية في موازاة استهدافه للعراق. فشل هذا المشروع في السعودية على الرغم من محاولته استخدام تمرّد جهيمان العتيبي، المتطرّف سنّيا، واحتلاله للحرم المكّي الشريف في تشرين الثاني – نوفمبر 1979، أي في الوقت الذي اندلعت فيه اضطرابات في المنطقة الشرقية للمملكة من منطلق مذهبي وذلك بتشجيع من ايران.

منذ 1979 وايران تريد اختراق العراق. بغض النظر عن مسؤولية صدّام حسين في اشعال حرب السنوات الثماني مع ايران، هناك واقع جديد في المنطقة. هناك سيطرة إيرانية على القرار العراقي ورغبة واضحة في الانتقام من العراق ومن شيعة العراق تحديدا بسبب حرب السنوات الثماني وما اسفرت عنه من شبه انتصار عراقي.

كانت السنة 1979 مفصلية. أسست لما نشهده اليوم من وجود إيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تتقدّم ايران في المنطقة على الرغم من وجود إدارة أميركية تعرف تماما، اقلّه على الورق، ما يمثله نظام في حال هرب مستمرّ الى خارج حدوده بعدما عجز عن رفع مستوى معيشة المواطن في الداخل. اين كانت ايران وأين كان المجتمع الايراني أيام الشاه وأين صارت ايران وأين صار المجتمع الايراني اليوم؟

هل يتغيّر شيء في 2019؟ الجواب بكل بساطة، هل من جدّية أميركية في التعاطي مع ايران ام لا في مرحلة يبدو الهمّ الاوّل لدونالد ترامب، الذي مضت سنتان على دخوله البيت الأبيض، محصورا في حصوله على ولاية رئاسة ثانية. من الواضح ان ايران، على الرغم من العقوبات الجديدة المفروضة عليها، يمكن ان تستفيد من متاهات إدارة أميركية صارت اهتماماتها في مكان آخر.