متظاهرو العراق: من أنتم ومن يقف خلفكم؟

جيل جديد لا يخاف من الرصاص الحي وطموحه أكبر من أن يصبح أحدهم موظف في قوائم فسادكم حتى الساعة هناك عشرات الضحايا ومئات الجرحى وعمليات دهس وقنص ما تزال مستمرة فيما المتظاهرون مصرون على مواقفهم وعباراتهم لم تتغير أريد حقي.

بقلم: دلوفان برواري

 بوجه أسمر فتي غطاه الغبار والدخان الأسود وقف بين الحشود وأصوات الرصاص تملأ السماء وصرخ بصوت مبحوح:”أريد حقي يا حرامية” …

إنه واحد من متظاهري العراق الجدد. شبان يافعون ملأوا الساحات غضباً واحتجاجاً يجابهون الرصاص الحي وقنابل الدخان بصدورهم العارية، مخترقين كل توقعات وحسابات رجالات السياسة والسلطة.

جاءت المظاهرات الأخيرة في العراق بشكل مفاجئ، خارج عن توقعات الأحزاب والسياسيين والمراقبين، دون تنظيم أو تخطيط، إنما هي فورة جيل جديد، جيل ما بعد الحشد الشعبي. جيل التظاهرات الأخيرة يختلف في تفكيره ومنطقه عما كانه جيل العقدين الماضيين. لم تنجح السلطات العراقية في مواجهتهم بالشعارات، وبرفع المقدسات أو بإطلاق الوعود التي لن تتحقق على الأغلب. الأخطر كان مجابهتهم بالعنف وبالرصاص لكن حتى هذا العنف كان بلا أثر يذكر. فجيل التظاهرات هو جيل سريع، يفعل ثم يفكر، إنه جيل وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي الباحث عن حياة كريمة وعن أمل في بلد يكاد يجرد مواطنيه من كل شيء.

قوة من رحم الشارع

من أنتم؟ ومن يقف وراءكم؟ وبمعنى أخر من نظم المظاهرات ومن المستفيد منها؟ أسئلة حيرت أذهان السياسيين في السلطة وخارجها وحتى المحللين الذين لم يجدوا في أبجدياتهم مصطلحات تفسّر الحالة الآنية.

إنهم بذرة جديدة ولدت من رحم الشارع الذي تم تهميشه و تسييسه وتقسيمه حزبياً وطائفيًا، جاءوا من الفجوة التي خلقت في المجتمع في ظل جشع وفساد أحزاب السلطة.

إنهم شبان تتراوح أعمارهم ما بين 16 و 23 عاماً. معظمهم ولد في ربوع وطن شبه مدمّر وتدعي الأطراف المتصارعة فيه أن كل ما يفعلونه “مقدس”، فيما في الحقيقة أن العراق بات وطناً مشاعاً للصوص لا يخجلون من أي شيء.

إنه جيل يبحث عن الهوية والأمل في رحم فساد قيادات لم تنجز سوى انقسامات وحروب وسرقات. شبان التظاهرات هم جيل عراق ما بعد 2003 ممن يأسوا من الأمل في وطن يحترم عقولهم ويضمن حقوقهم المشروعة.

لماذا الآن؟

الجميع يشكك ويسأل: من الذي حركهم الآن، ولماذا الآن؟ أعيد السؤال ولماذا ليس الآن…؟ هل كان السياسيون وأحزابهم راضين عن إنجازهم للمواطن، فكان خروج المتظاهرين مفاجئ لهم؟

إن السؤال الصحيح هو لماذا انتظروا حتى الآن؟

الزملاء الصحافيين في ساحات التظاهر يؤكدون انهم لم يتمكنوا من فهم منطق وتفكير هؤلاء الشباب، فهم غير منظمين وليس لديهم مطالب مسبقة، إنما يصرخ كل منهم “أريد حقي”. أحد الزملاء أكد انه لم يتمكن حتى من فهم ماذا سيفعلون بعد قليل وقال “أنا ضائع بينهم وكأني غريب، لا أعرف هذا الجيل”.

في نقاش مع أحد الأصدقاء لفهم وتحليل ما يحدث ومن هم المتظاهرين وماذا يريدون قال لي “انهم جيل السرعة يا صديق، منطقهم مختلف عنا، ومن الصعب علينا فهمهم، فهم يفعلون ثم يفكرون، بعكسنا نخطط وننظر ثم نفشل في التنفيذ”، إذا الفعل يسبق التفكير، وعلينا أن ندخل في مفهومهم الجديد ونتعامل على أساسه لا بطرقنا الكلاسيكية المتقاعدة.

خطابات ووعود كاذبة.. دون حلول

رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي عجز عن مخاطبة المتظاهرين بما يطمئنهم فظهر متردداً، أما رئيس مجلس النواب فحاول أن يستخدم التحذير والتهديد من انهيار الدولة ووعود بمكاسب للمواطنين.

لكن أياً من المسؤولين لم يحاول تغيير منطق التفكير والاقتراب من منطق المتظاهرين ومن مشاعرهم. حتى المرجعية الدينية عجزت عن فهم وقراءة حيثيات الحراك ولم تعي أنه يختلف عن المحاولات السابقة التي تم لجمها بالترغيب وبالترهيب.

هذا جيل جديد لا يخاف من الرصاص الحي وطموحه أكبر من أن يصبح أحدهم موظف في قوائم فسادكم.  حتى الساعة هناك عشرات الضحايا ومئات الجرحى وعمليات دهس وقنص ما تزال مستمرة فيما المتظاهرون مصرون على مواقفهم وعباراتهم لم تتغير “أريد حقي”.

لا أعلم إن كان قادة السلطة يتفهمون معنى الإصرار هذا، وعدم اهتزار هؤلاء الشبان أمام القمع المفرط والقتل المستمر وحتى الإغراءات، فهل يفهمون ماذا وكيف يفكر هؤلاء الشباب؟؟

على السلطة الإسراع في اتخاذ خطوات يجابية تتناسب مع المنطق والتفكير الذي يعمل به المتظاهرون، أما إذا أصروا على موقفهم التقليدي المتحجر فسوف تجتاح هذه المظاهرات عروشهم وتقلعهم من كراسيهم، والإصرار على استخدام القمع والقتل قد يوصلنا الى انتشار فوضى عارمة لا تحمد عقباها.

صحافي عراقي