محاولة.. لتفكيك العقل الأصولي الديني

الدين ظاهرة إنسانية كبرى تتوزع على مستويين: أولى يتمثل فى خبرة الاتصال العاطفي مع المبدأ الإلهي/ القدسي حيث الخبرة الروحية خالدة ومن ثم متسامية على التاريخ وثانوي يتم فيه تجسيد هذه الخبرة وتنظيمها ما يجعل منها معرفة وتقاليد تدور حول نصوص ونُقول، يتم استنطاقها لتبثنا أفكارا تقارب الحقيقة أو تلهمنا قواعد تقارب القانون وعلى هذا المستوى تكون التاريخية هى قدر الفكر الديني.

بقلم: صلاح سالم

تنتظم الأفكار الكبرى التأسيسية فى حركة سير التاريخ الإنسانى كعربات قطار يتوالي مرورها على محطة «التأثير والفعالية» بحيث تبلغ كل فكرة كبرى ذروة تحققها فى عصر ما دون غيره؛ فتستحيل مرجعا تقاس به وإليه حركة الفاعلين فى عالم هذا الزمان، قبل أن ترثها فكرة كبرى أخرى أقدر منها على حمل أعباء عصر جديد ارتقت فيه بنى التاريخ، وبلغت درجة أكبر من التعقيد، وهكذا.

من ثم كانت الأفكار القادرة على صياغة العالم هى دائما الأكثر حداثة، وارتباطا بعصرها، وقدرة على تلبية متطلباته. ففى مرحلة تاريخية ما كان الدور الرئيسى لأفكار خرافية مثل السحر والحسد، وفى أخرى تالية ارتبط هذا الدور بأفكار من قبيل الأعراق النبيلة والبطولة الشخصية، وفى مرحلة أكثر نضجا تكاد تشغل العصر المحورى، احتكر الدين بسردياته الوجودية ومعارفه النقلية هذا الدور، فيما لعبت الأفكار الأخرى أدوارا هامشية.

أما الحقبة الحديثة فشهدت بزوغ أفكار جديدة محفزة للتاريخ؛ سواء كانت فلسفية كالحرية والنزعة الإنسانية، أو سياسية من قبيل العلمانية والديمقراطية، أو علمية حيث صارت التكنولوجيا، كتطبيق للعلم الحديث، رافعة الحياة المعاصرة، بينما تحركت الأفكار المحفزة الأخرى إلى ظل التاريخ. وهكذا نجد أن الأفكار الكبرى جميعها قد لعبت دورها المحفز فى التاريخ، ولكن بأقدار مختلفة فى مراحل مختلفة، عبر تتابع محكوم ببنية تاريخية متطورة تنزع عموما إلى الارتقاء والتعقيد. ولكن يبقى السؤال كيف تسلك الفكرة التأسيسية حال فقدت قدرتها على التحكم فى عالمها؟. ذلك أن فشلها فى تحقيق السيادة لا يعنى موتها، بل فقط انزياحها من بؤرة التاريخ، ما يدفع بها غالبا إلى أحد اتجاهين:

الاتجاه الأول هو الإسهام (الجزئي) فى حركة العصر إذا ما انصاعت الفكرة لمنطق التاريخ، فأحسنت التكيف مع عصرها، وأبدت تواضعا إزاء فكرته الأثيرة المحفزة، وهو الأمر الذى يساعد على تكامل وانسجام وسلاسة حركة التاريخ، كما يدعم الوحدة العميقة فى بنية الحضارة الإنسانية، فسيادة فكرة بعينها، وهى بالطبع الأكثر حداثة فى عصرها، إنما يفضى إلى تعميم ريادة الحضارة المنتجة لها، ومن ثم كانت هناك دوما حضارة سائدة، تتعدد داخلها الثقافات، وتتوزع بين ثقافات سائدة وأخرى متنحية، الفارق، بينها هو نفسه الفارق بين الرائد والتابع، الصانع والمستخدم.

أما الاتجاه الثاني فهو مشاكسة حركة التاريخ عندما تحاول الفكرة التأسيسية المتقادمة تحدى منطق العصر السائد بإعاقة الفكرة التأسيسية الجديدة، وقطع طريق سيرها الآمن. فعلى الرغم من أهمية الفكرة المتقادمة فى ذاتها، فإن محاولتها تصدر المشهد فى غير أوانها غالبا ما تولد طاقة سلبية ضد حركة عقارب الساعة، تعمل على إعاقة الفكرة الجديدة الأكثر قدرة وحداثة عن ممارسة دورها. بالطبع ثمة فارق أساسى بين الأنساق الدينية وبين الأفكار الوضعية؛ فالدين ظاهرة إنسانية كبرى تتوزع على مستويين: أولى يتمثل فى خبرة الاتصال العاطفى مع المبدأ الإلهي/ القدسي، حيث الخبرة الروحية خالدة ومن ثم متسامية على التاريخ. وثانوى يتم فيه تجسيد هذه الخبرة وتنظيمها، ما يجعل منها معرفة وتقاليد، تدور حول نصوص ونُقول، يتم استنطاقها لتبثنا أفكارا تقارب الحقيقة أو تلهمنا قواعد تقارب القانون، وعلى هذا المستوى تكون التاريخية هى قدر الفكر الديني.

وعلى هذا كان ممكنا وربما مطلوبا - تحت ضغط الحداثة - أن ينزاح الدين من المجال العام السياسي إلى المجال الخاص الفردى، متنازلا عن طموحه إلى تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على العلوم والمكتشفات. وفى المقابل لم يكن محتما ولا حتى مطلوبا أن يفقد الدين كل قيمته، أو يُعلن عن موته بقوة سيف العقلانية الراديكالية. فالنزعات المادية الكامنة فى تربة العالم الحديث / العقلاني / العلماني، وما يصاحبها من نزعات شكية وأحيانا عدمية، أصابت الإنسان بتوتر نفسى لا محدود، تغذى على الإيقاع السريع لمعدلات التغير، حيث تختلط الاتجاهات، وتزوغ الأبصار، ويشعر الناس بالتيه والضياع وصولا إلى شعور عميق بالاغتراب، يعود ليمنح الدين سيفا جديدا يحارب به العالم الحديث، كونه المصدر الأساسي لليقين الروحي الناجم عن قوة الاتصال العاطفي مع المبدأ القدسي، فى عالم تحيطه الشكوك، ومن ثم انفجر الإحياء الديني فى كل مكان تقريبا.

 ليس ذلك الإحياء الروحاني الذى كان سلفا، ولا الإيمان التقليدي الذى ساد زمنا، بل الإحياء العنيف الناجم عن شعور بعض المتدينين ذوى القدرة المحدودة على التكيف بالهزيمة والرغبة فى الثأر، والطموح إلى استعادة أرض مغتصبة كانت للدين قبل أن يُطرد منها، ولو اضطروا إلى حرقها. ومن ثم نجد أنفسنا أمام مفارقة تاريخية كبرى، وهى أن القرن الحادي والعشرين المفعم بأحلام التقدم، والمتوثب إلى بلوغ ذرى القمم التى قاربها سابقه، إنما يلوي خطاه إلى بعض طرق ومداخل تقود إلى ما يسبق القرن العشرين، وليس إلى ما يليه، حيث الدين؛ سواء بحضوره الطقوسى أو احتجاجيته الثورية، حجر عثرة على طريق العقلانية المفرطة، بعد أن كان مفكرو الحداثة، منتصف القرن التاسع عشر، تصوروا أنهم تجاوزوه إلى الأبد.

فى هذا السياق تتشابه الديانات الثلاث الإبراهيمية، فالمشتركات بينها لا يمكن إنكارها؛ كونها نبتت من الجذر الاعتقادى نفسه، وترنو إلى المطلق ذاته، وإن كانت وجوه التغاير فيما بينها، بحكم السياقات التاريخية والثقافية، لا يمكن إخفاؤها. أما المشترك بينها، ولعله الملمح الأكثر أساسية، إنما يتمثل فى الفهم الانتقائي لهذا الدين أو ذاك؛ فالأصوليون إذ يدَّعون قدرتهم (وحدهم) على استعادة الجوهر المؤسس لدينهم، تجسيدا لنموذج الحياة الأصلي الذى انطلق منه، وبلوغ الغايات التى استهدفها، إنما يصبغونه باختزالية قاتلة؛ يفاقم من خطورتها حقيقة أن القراءة الأصولية للنصوص الدينية مستقبلية فى جوهرها، وإن بدت ماضوية فى ظاهرها، فالأصولي عينه على المستقبل، أما الماضي فهو مجرد وسيلة؛ مخزن لأفكار ومقولات جاهزة يستطيع الاستعارة من بينها، ومخبأ لسيوف ورماح يستطيع السحب منها ليرمي بها مخالفيه فى: الاعتقاد، الطائفة، المذهب، ما يفرض علينا تفكيك مقولاته الإطلاقية وادعاءاته القدسية، خصوصا فى سياق التقليد الإبراهيمي، حيث تتعارك الأصوليات: اليهودية والمسيحية والإسلامية حول تشكيل السلطة وصياغة الهوية، وتستميت فى الجهاد، وإن بأشكال مختلفة، دفاعا عما تتصوره حقيقة كلتيهما.