محمد عبده .. مشاهد من رؤى الإصلاح والتَّنوير

التنوير يحصل بتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض لهو من أبرز أصول الإسلام إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل وتأويل المنقول ليتفق مع المعقول.

بقلم: بَلِيغ حمدي إسماعيل

 ما أتعس رجال الدين في عصرنا وأئمة التجديد الشكلي لا الجوهري وهم يتباكون ليل نهار على خطابنا الديني المعاصر، لأنهم باختصار لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن المشهد التاريخي المتزامن مع صعود المد التنويري على يد الإمام المجدد محمد عبده، لأن القرن الثامن عشر جاء وجاءت معه الساعات الطويلة من سواد البصر والبصيرة، وانمحت الرؤية التجديدية لدى كثيرين، وبات من الصعب بل من المستحيل أن يخرج علينا شيخ معمم ينادي بضرورة الإصلاح في الفكر والتعليم ومن ثم التجديد في الخطاب الديني.

يكفي للشيخ المجدد محمد عبده أنه حينما وصل إلى القاهرة ليتعلم في أقدم جامعة إسلامية الأزهر الشريف، ورأى بعينه ما وصل إليه هذا الصرح من تردٍ في الفكر والمنهج وما شاهده من فوضى عارمة في الدراسة النظامية به والرقابة المنعدمة فكان طرحه الفكري بعدما وصل إلى ما يرنو إليه ويبتغي أي عالم هو إصلاح هذا الخلل في الفكر والمنهج والمسلك.

ليس من العجب والدهشة ما نطالعه في كتابات الإمام عن رؤى تربوية إصلاحية رائدة، فهو حينما وصل إلى الأزهر الشريف وجد المتعلمون يحصلون قشورا بسيطة من اللغة والفقه على أيدي مشايخ هم بحاجة أولى للتعلم لا إلى التدريس، فسعى إلى سد الفجوات الرهيبة في التعليم، فعني بالاهتمام بالدراسات الأدبية المتخصصة، فهو يرى أن أهمية تدريس الكتب الأدبية تكمن في تنوير الأفكار وتهذيب الأخلاق، وهذه الفكرة ـ أقصد التنوير ـ ظلت محور اهتمام الإمام، فكم من مرة أشار إلى ضرورة الإلمام بالكتب الأدبية التي توضح أحوال الأمم، والتي تحث على الفضائل وتنفر من الرذائل وارتكابها . بل يدهشنا الإمام إلى أكثر من ذلك، ويكاد يسبق كل الصيحات والأصوات العالية المعاصرة التي تنادي بضرورة تطوير وإصلاح التعليم في مصر، ولا أشك لحظة أن القائمين على عمليات التطوير الشكلية مهتمون بما كتبه وسطره الشيخ الإمام في ذلك الصدد. ولقد أشار الشيخ الإمام رغم بُعد المسافة الزمنية إلى أن مشكلاتنا الحضارية تكمن في هذا القصور في التعليم الديني ؛ إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد، وإما بالسلوك إليه من غير طريقه القويمة كما في بعض آخر.

حينما أتعب الإمام المجدد محمد عبده السلطات والنظام الحاكم في عصره، أبعدوه عن كافة وظائف التعليم، ولحسن قدر الإمام أنهم اختاروا له وظيفة القضاء، فالمصلح مجدد أينما حل، لذلك سطر القاضي محمد عبده اسمه بحروف من ذهب في سجل القضاء المصري؛ لأنه لم يعكف على إصدار الأحكام كبقية القضاة، بل اجتهد في سن سنة حميدة وهي تقديم مقدمة قبل النطق بالحكم تتناول بعض المعارف والأحكام والمسائل المعرفية المتصلة بالقضية موضوع النظر، ولذلك كان الإمام محمد عبده ـ تحديدا ـ قبل النطق بحكم مشدد ينطوي على عقوبة غليظة يقدم ثمة معلومات كافية تستدعي إعمال العقل فيها والروية، وهو ـ محمد عبده ـ يرى أن هناك ضرورة ما في تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض لهو من أبرز أصول الإسلام، حيث يقول: "اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان : طريق التسليم بصحة المنقول، مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية : تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل".

من أبرز ما كتب عن الشيخ الإمام محمد عبده تلك السطور التي خطها قاسم أمين أحد أبرز رواد الحركة التنويرية في الوطن العربي وصاحب الكتاب الأشهر "تحرير المرأة" وكتاب "المرأة الجديدة" وكليهما ـ الكتابين ـ بحاجة إلى إعادة تأويل وتفسير وتحليل جديد، فقاسم أمين يرى في القاضي والمعلم والمصلح الإمام محمد عبده " أن إمام مصر كان محركا بقوة فوق الاعتيادية وأن عقله كان ملآنا بالفكر إلى حد أنه كان لا يسعه كله، إلى حد كان يفيض منه بالرغم، وأن قلبه كان ملتهبا بحب وطنه فلا يستريح إلا وهو مشغول به وبسعادته وبمستقبله وأنه كان مثل جميع نوابغ الرجال لا يبالي بالألم الذي يأتيه بسبب أمنيته التي كان يعزها".

من الجوانب الغائبة عند تناول الإمام المجدد محمد عبده التطرق إلى منحى التصوف لديه، وهو يشترك فيه مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، والتصوف عنده كما يشير الأستاذ العقاد سليقة وطبع فطري وليس تطبعا ودراسة، بل التصوف عنده موهبة كما كان الصوفيون الأوائل، لذلك كان الإمام يستخف بعظمة الدنيا وزينتها الزائفة، وهو بحق لم تملكه الدنيا، وهذا ما جعل الخديو عباس الثاني كثير الشكوى من مسلك الإمام محمد عبده في حضرته، فيقول: "إنه يدخل عليَّ كأنه فرعون" .

محمد عبده كان وراء جرأة قاسم أمين