محمد غنيمة يجمع أوراقا ومراسلات مصرية نادرة في 'ذاكرة النخبة'

الباحث المصري يطرح من خلال كتابه الصادر عن دار الرواق اسئلة جوهرية: كيف استطاعت النخبة المصرية في العصر الحديث مواجهة التغير الذي حدث في عصرها، هل واجهت هذا التغير، وكيف قامت بالتصدي لتكرار التاريخ لنفسه.

هل آن أوان الدخول إلى أعماق التاريخ بأصعب وأضعف لحظاته؟ هل لنا من قراءة جديدة للتاريخ؟ هل آن الأوان أن نواجه أنفسنا بما علمه التاريخ لنا؟ أم سوف نترك الأيام القادمة تعبث بنا كيفما تشاء؟ كيف استطاعت النخبة المصرية في العصر الحديث مواجهة التغير الذي حدث في عصرها؟ هل استطاعت مواجهة هذا التغير؟ وكيف واجهت تكرار التاريخ لنفسه؟.. تساؤلات يطرحها الباحث محمد غنيمة في كتابه "ذاكرة النخبة أوراق ومراسلات نادرة من التاريخ الحديث" وهو كتاب وثائقي يوثق للنخبة المصرية.

بدأ غنيمة كتابه الصادر عن دار الرواق لعام 2021 بالحديث عن عبدالرحمن الجبرتي كواحد من النخبة المثقفة في العصر الحديث وواحدا من أهم المعاصرين لفترة الحملة الفرنسية على مصر، والفترة الأولى من حكم محمد علي باشا، فيرصد من خلال كتاباته، كيف قام بنقد الثقافة المجتمعية وقد فندها غنيمة على شقين أولها: تدهور الحياة الفكرية بشقيها من العلوم الدينية والعلوم العقلية، وثانيها وهي: الانحرافات التي ظهرت في الحياة الدينية وممارسة العقيدة.

وعرج غنيمة في فصله عن الجبرتي في رصد لحكايات الأولياء والخوارق في كتابات الجبرتي، ثم اتجه إلى رصد تأثير الحملة الفرنسية على المصريين وكيف وصف الجبرتي هدا التأثير ودون لذلك بامتعاض واستهجان شديدين، وأنكرها على المجتمع، ومنها ما اعتبره "تبرج وسفور النساء"، وذلك في محاولة مواكبة ملابس الفرنسيات، وأعتبرها واحدة من بوارد انحلال المجتمع.

قال الجبرتي "ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التداخل أولا مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أهلها وأخذوا ما استحسنوا من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزينوهن بزي نسائهم وأخرجوهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر".

ورصد غنيمة الفكاهة من خلال ما دونه الجبرتي عن نخبة عصره وركز عن ألفية عامر الأنبوطي الشاعر الذي اشتهر عنه مرحه وفكاهته، كما اشتهر عنه أنه حينما يصادف أي قصيدة قد ذاع صيتها وانتشرت بين الناس، كان يقلب وزنها وقافيتها إلى قصيدة أخرى تصف لذة الطعام، فيجعلها قصيدة تمتدح "الفتة ـ وأناجر الضأن ـ المحاشي والمحمرات والمشمرات والحلويات"، وغيرها، يصفه الجبرتي قائلا "وكان شيخا مسنا صالحا مكحل العينين دائما عجيبا في هيئته، ومن نظمه ألفية الطعام على وزن ألفية ابن مالك".

في ألفيته للطعام بدأ ابن الأنبوطي كالتالي:

يقولُ عامرٌ هو الأنبوطِي

أحمدُ ربي لستُ بالقَنُوطِ

وأستعينُ اللهَ في ألفيّهْ

مقاصدُ الأكلِ بها مَحويّهْ

فيها صُنوفُ الأكلِ والمَطاعِم

لذّتْ لكلِّ طاعِمٍ وهايمِ

طعامُنا الضّاني لذيذٌ للنهِمْ

لحماً وسمناً ثم خبزاً فالتَقِمْ

فإنها نفيسةٌ والأكلُ عمّ

مطاعِماً إلى سناها القلبُ أمّ.

وتساءل غنيمة عن حقيقة شامبليون: هل كان شامبليون مولعا بأهل مصر ومحبا لهم؟ أما أن كل ما فعله في علم المصريات كان لمصلحته الشخصية ولمصلحة بلده؟ ويبدأ بتتبعه منذ أن جاء لمصر موضحا الفترة التي قضاها بالقرب من محمد علي باشا وكيف انتهى به الحال الى اقتناء مجموعة مهمة من الآثار المصرية وهي موجودة الآن بمتحف اللوفر.

يقول غنيمة "وبالرغم من ظهور شامبليون بموقف المحافظ على آثار مصر أمام الوالي محمد علي باشا إلا أنه حينما عاد لفرنسا 1829م، عاد محملاً بكنز ثمين من الآثار المصرية قُدِّر بأكثر من مئة قطعة مدهشة، اشتملت على التابوت البازلتي للكاهن "جدحور"، والنقش الرائع للملك سيتى الأول، والد الملك رمسيس الثاني، والمعبودة حتحور من معبده في أبيدوس في صعيد مصر الخالد، والتمثال الأعظم لـكاروماما من الأسرة 25، والمنضدة العاجية الشديدة الجمال للملك بيبي الأول من الأسرة السادسة، وأجزاء من أساسات معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت في البر الغربي لمدينة الأقصر، لتبدأ بعدها قصص أخرون غنموا من تاريخ مصر وأثارها ما غنموا، لكن التاريخ يظل واضعا شامبليون في مصاف العلماء أناروا طريق العلم، وخدموا البشرية".

وفي الفصول التالية من الكتاب يرصد غنيمة مجموعة من الشخصيات المصرية المثقفة التي لم تأخذ حقها الإعلامي لكنها كانت ذخرا لهذا الوطن بإنجازات عظيمة في مجالات الفلك والفيزياء والجغرافيا وغيرها، حيث افرد بفصول متتابعة محمود باشا الفلكي أحد أهم علماء الفلك المصريين، وكيف استطاع حساب عمر الأهراما وكيف أثبت ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لافتا إلى نص ما قاله مختار باشا المصري صاحب كتاب التوفيقات الإلهامية عن الفلكي باشا"وعلى ذكر هذه الرسالة يجدر بي إيراد عبارة هي في حد ذاتها صادرة عن أفكار شخصية، فقد كنت موجودًا مع المرحوم عند شروعه في أخذ مقاييس الأهرام وموقعها من التناسب الفلكي، وأعلم علم اليقين بأنه وصل للاطِّلاع على الغرض من تشييدها، إذ وجد تحكيمها في رسم يقابل بالضبط كوكب الشعرى عند طلوعه، فكأن الآمر ببنائها أراد أن يجعلها مزولة يعرف بها يوم شم نسيم العلماء، ولأجل تعريض جثث المدفونين فيها لموافاة صعود الكوكب المذكور، فيسبغ عليه من آياته رحمة وغفرانًا؛ إذ ليس بخافٍ أن كوكب الشعري كان عند الأقدمين، وخصوصًا المصريين، من أجلِّ المعبودات، حتى عبَّر عنه بعضهم بإله الآلهة".

كما رصد غنيمة جانبا لم يكن معروفا عن العالم الفذ علي مصطفى مشرفة وكيف قام بإنشاء لجنة المؤلفين والملحنين، وكيف قام بتعريب موسيقى شوبرت ومصر لشكبيسر وكيف كانت خطته في صناعة أول بيانو عربي بأزرة موسيقية تخرج لنا نغمات عربية خالصة.

وفي فصله عن جمال حمدان أوضح ما رصده عن شخصية المجتمع المصري نفسه، وما هي سمات الإنسان المصري وخصاله وطباعه وكيف استطاع الحكم على طبيعة وأخلاق الشعب المصري بموضوعية تامة بعيدا عن الشوفينية البغيضة وبحيادية تامة. حيث قال حمدان عن شخصية المصري "إليك مثلاً ودون ترتيب صارم: المرح والصفاء وعند ابن خلدون "الفرح والخفة والغفلة" كذا، روح الفكاهة والنكتة والسخرية، الميل إلى الحزن، الانبساطية التي لا تميل إلى الفردية، البساطة والتعاون، حب الأسرة والأسلاف، التدين والنزعة الروحية والنزوع الديني، الغيبيات، التواكلية أو الاتكالية، الرضا (دون دونية)، القناعة، الطاعة التي لا تدعو إلى التمرد والثورة "ولكن دون غضاضة"، الدعة والوداعة، الصبر، السلبية والاستعداد للسلبية وغلو السلبية وسيادية السلبية "دون ذلة أو استكانة مع ذلك"، كثرة الخضوع والشعور بالتبعية، اللامبالاة، القهر وكف العدوان، المحسوبية والمحاباة، النفاق (وعند المقريزي "الدعة والجبن وسرعة الخوف والنميمة والسعي إلى السلطان" كذا....".

وأفرد غنيمة فصلا عن المراسلات التي دارت بين صفية زغلول وسعد زغلول في فترة منفاه ليوضح لنا من زاوية جديدة كيف كانت مجريات الأمور في هذا الحدث، حيث فرد لخطاب هام من صفية زغلول إلى اللورد النبي تطلب منه إخراج زملاء سعد من المنفى وإرسالهم لفرنسا ليكونوا برفقة سعد زغلول وذلك أسوة بما حدث لسعد، مع التأكيد على تدهور حالتهم الصحية.. وجاء نص الخطاب كالتالي:

إلى سعادة المندوب السامي البريطاني في مصر

سيادة الماريشال،

عندما رأى الشعب المصري أنكم نقلتم زوجي إلى جبل طارق، التي جوُّها أنسب لصحته، لم يشك أبدًا أنكم ستنقلون رفاقه معه وأن ذلك الفصل لا يعود إلا إلى وسائل النقل التي نجهلها تمامًا. لكن القلق بدأ يتملكنا جميعًا، وأرى أنه من واجبي أن أبلغ سيادتكم أننا جميعًا نرغب رغبة عارمة في عودة كل المنفيين إلى بلدهم، وأنه إذا كان لابد من إبقائهم بعيدين عن بلدهم، فيجب أن يكون ذلك في ظروف لا تضر بصحتهم. لقد حللتم المسألة فيما يتعلق بزوجي لأنه مريض، لكن الآخرين لا يقلون عنه مرضًا، وستزداد أمراضهم المختلفة سوءًا بسبب قسوة الحياة في سيشل، والنقص التام في الراحة، والمناخ غير الصحي طيلة الجزء الأكبر من العام.

لذا فإن الشعب المصري يرى أن من حقه أن ينتظر من سيادتكم أن تخاطبوا حكومتكم بشأن معاملة المنفيين في سيشل بالشكل الذي تستوجبه حالتهم الصحية.

وتقبلوا، سيادة الماريشال، خالص التقدير.

وعرض غنيمة وثيقة مهمة نادرة يعترف فيها طه حسين نفسه بمؤامرة قام بها بالاتفاق مع علي باشا إبراهيم وأحمد لطفي السيد لتسهيل دخول الفتيات للجامعة المصرية وإعطائهن حق التعليم الجامعي وكانت بمثابة دخول المرأة للتعليم الجامعي. نفرد هنا جزءا حصريا من هذه الوثيقة، وهو كلمة عميد الأدب العربي د.طه حسين في حفل تقديم أوليات خريجات الجامعة المصرية: "منذ نحو عشرين سنة كنت طالبا في السربون، وكنت أختلف إلى الدروس فيدهشني هؤلاء الطالبات اللاتي كن يختلفن معنا إلى دروس الفلسفة ودروس الأدب وإلى أنواع الدراسات القديمة، وكن يزحمننا فيزحمننا ويسبقننا إلى رضاء الأساتذة وكنت أعجب إعجابا خاصا بطالبة فرنسية كانت تتقن التاريخ الروماني اتقانا مدهشا، وكانت تلعب بنصوص القدماء فتفسرها وتؤولها بطريقة لست أدري كيف تصل إليها، وكنت كلما أعجبت بواحدة من هؤلاء الفتيات وكن كثيرات في ذلك الوقت وكان الوقت وقت حرب، وكان الشباب يؤدون واجبهم نحو الوطن كنت كلما رأيت هؤلاء الفتيات وأعجبت بهن تتمزق نفسي حسرة على مصر، وكنت أسائل نفسي متى نستطيع أن نرى في مصر فتاة تستطيع أن تتصرف بنصوص الأدب القديم، وان تتفق وقتها في قراءة النصوص القديمة وفهمها أو تتفوق في فرع من فروع الفلسفة لتستطيع أن تغيظ الشبان كما هؤلاء الفتيات يغظننا في فرنسا".

وتساءل غنيمة في نهاية كتابة لماذا هناك ولع فرنسي بمصر؟ وأجاب عن هذا السؤال بفرد مجموعة من الخطابات الدائرة بين كلبير وبونابرت ومينو عن إدارة الأحوال بمصر، وكيف وضعت فرنسا نصب أعينها غزو مصر، حيث ترجع جذور هذه الفكرة إلى لايبنز Liebin ؛ ذلك العالم والفيلسوف الألماني الذي قدم لملك لويس الرابع عشر باقتراح لغزو بلاد الفراعنة وكتب يقول "هذا هو أضخم مشروع يمكن تصوره والأكثر سهولة في تنفيذه وأن مصر من بين بقاع العالم هي الأفضل موقعا من أجل السيطرة على الدنيا وعلى البحار والحال أنها خالية من أي دفاع ولا تنتظر سوى وصول جيش تحرير لكي تنهض لنا".